رحلة شربل بعيني مع العذاب الشعري

   بدأت أكتب الشعر وأنا في التاسعة من عمري، وكانت أول قصيدة ألقيتها يوم زار بيتَنا شخصُ العذراء مريم، كعادة أهالي بلدتي مجدليا الشمالية في شهر أيار، حيث كانوا يعتبرونه الشهرَ المريميَ المبارك، وكانوا ينقلون شخصَها من بيت الى بيت، يومذاك أدركت أنني شاعر، فألقيتُ قصيدة لا أدري كيف جاءت، ولكنها جاءت ركيكةً جداً، رغم تصفيق المؤمنين، وبقي والدي يحتفظ بها الى أن وافته المنية فماتت معه القصيدة.
   أخبرتكم هذه القصة لتعرفوا كيف ولدت كشاعر، وكيف بدأت مسيرتي الشعرية مع الفرح والألم. الفرح لن أتكلّم عنه، لانه، رغم الاطراء الكثير الذي نلته، لم يؤثر بي كشاعر، فلقد كُتبت عني آلافُ المقالات، وعشرات الكتب، ومع ذلك لم تصهرْني كشاعر، الألم هو الذي أوجدني، وثبّت أقدامي على طريق الكلمة الحرة، ولولاه لبقيتُ شاعراً عددياً لا غير، حسب قول الاعلامي المرحوم بطرس عنداري.
   والألم يأتي من النقد الجارح، والتهجمات الشخصية المؤذية، والمواقف الساخنة التي قد تودي بحياتك، ولكنك بدونه لن تشعرَ بثقل كلماتك، بوهج حروفك، بقيمتك كشاعر، وبعظمة شاعريتك. الاضطهاد وحده يرفعك كشاعر، ويرميك في أحضان المجد.
   عام 1968، وأنا في سن المراهقة، أي في السابعةَ عشرةَ من عمري، نشرتُ أولَ كتابٍ لي بعنوان "مراهقة"، كانت معظم قصائده اباحية، أي أنني قلدت به يومذاك أشعارَ المرحوم نزار قبّاني، ولكن بالعامية، وحين أهديتُ الكتابَ لنزار، راح يتصفحُه في مكتبه ببناية العازرية في بيروت، وبعد أن قرأ عدة قصائدَ منه تطلع بي وقال: 
ـ أنت شاعر، ولكن عليك أن تكتبَ بالفصحى كي تصلَ الى مئتي مليون قارىء عربي، وليس بلغة سعيد عقل التي لا يقرأها الا ثلاثة ملايين قارىء فقط. 
فأجبته: 
ـ إذا كتبت بالفصحى من الصعب أن أتقدمَ عليك، ولكنني بالعامية سأتقدمُ على الكثير الكثير من الشعراء.  
   فابتسم وراح يشد على يدي وهو يودعني قبل أن يعودَ الى مكتبه.
   هذا الكتاب الذي أعجب نزار قبّاني لم يعجبْ العديد من النقّاد ورجال الدين، فكانوا يهاجمونه، ويطالبون الاهل بأن يمنعوا أبناءَهم وبناتِهم من اقتنائه.. وهكذا راحوا يروجون للكتاب عن طريق محاربته حتى لم تبقَ نسخةٌ واحدة منه في المكتبات، وليس هذا فحسب بل أن "توني سابا" وهو الاسم المستعار لاحد مستشاري رئيس الجمهورية يومذاك، راح يطالبني في مجلته "الساخر" العدد السادس، حزيران 1970، بأن أقرأ قصائدي في "مسرح فاروق"، والكل يعلم ما هو مسرح فاروق، وإليكم بعض ما كتب:
   بلانا بغزل سيء سخيف زمخشري لرجل غبي قليل الذوق اسمه نزار قباني صاحب هذا البيت الذي لا معنى له:
أخاف أن أقول للتي أحبها أحبّها/ فالخمرُ في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها
واعاننا بالغزل الارستقراطي الرفيع ومنه هذه القصور لشربل بعيني (وينك يا مار شربل)،:
هالحلمة اللي مشوبي/ يا ما قلوب مدوبي/ ومكتوب حدا ع النهد/ لا تلمسوني مكهربي/ ما أطيبا هالفستقه/ وهالفستقه يا مراهقه/ عم تنعبد بهالدني/ متل الاله الخالقا
   وتناسى أخونا أن نزار قبّاني قد سبقني بالقول:
حيّكتُ من جلد النساء عباءةً/ وبنيتُ أهراماً من الحلَماتِ
   وأخيراً يقول: 
   أخبروني ان مسرحَ فاروق بحاجة الى شاعر (ليقف) بين هلالين، ويلقي بين المَشاهد قصيدةً يُبقي فيها الحضور على اتصال بما يُقدَّم من برامج رائعة. هل تذهب يا شربل ام ان شعرَك لا ينفعُ في الوقوف مثله في (القرفصة) او (النوم).
   ولم يُدركْ هذا المستشار أنني كنت في سن المراهقة، ومن حقي أن لا أفكر إلا في الخدود والشفاه والبوسات والحلمات والقد المياس، وإلا لكنتُ بحاجة الى طبيب نفسي.
   عام 1969 نشرت قصيدةً بعنوان "القدر كذاب القدر مجرم" في ملحق جريدة البيرق البيروتية، أردت بها أن أجاري موجةَ الحداثة الشعرية التي كانت تجتاح العالم العربي، دون أن تصلَ الى شعرنا الزجلي العامي، فقلت في نفسي لماذا لا أجرب، وما أن نشرتُ القصيدة حتى قامت قيامة الأب نعمة الله ك. واتهمني بالكفر، واليكم بعض ما كتب في مجلة "صباح الخير" البيروتية، العدد 166، 13 تشرين الاول 1969: 
وأخيراً، يتجاسرُ شاعرُنا العزيز ويقول:
الدنيي ما في لها نهايه/ لها بدايه/ كذب../ نحنا بداية هالدني ونحنا النهايه..
هنا الطامة الكبرى، هنا الالحاد.. كيف تنشر جريدة البيرق الغراء مثل هذه القصيدة؟ أو بالأحرى كيف يكتب شربل بعيني مثل هذه القصيدة؟
   وبدأت الردود على الردود وبدأ وجعُ الرأس.. واليكم مقتطفات من القصيدة:
أَنَا قِدِّيسْ../ إِصْبعِي بْيِضْوِي بْلَيْلات الْقَدَرْ/ حْمِلْتْ الأَرْضْ،/ وِبْنَفختِي طْفِيتْ الشَّمسْ،/ وِبْرُوسْ صَابِيعِي كْمَشْت الْقَمَرْ../ عُمْرِي:/ نَسْمِةْ هَوَا.. / بَرق وْرَعدْ/ مِينْ قَالْ عِنْدِي عُمر؟!
غِطَّيْتْ وِجِّي بْإِيدَيِّي/ وْصِرتْ إِمْشِي تَا أُوصَلْ/ وْمَا أُوصَل../ الْهَدَفْ:/ سْرَابْ،/ ظلّ،/ كَمْشِةْ خْيَالْ بْعَقلْ مَجْنُون!/ الدِّنْيِي مَا فِي لِهَا نْهَايِه../ لِهَا بْدَايِه!/ كذبْ../ نِحْنَا بْدَايِةْ هَـ الدِّنِي/ وْنِحْنَا النّهَايِه!
   وبعد هذه الشهرة الواسعة التي حصلت عليها بدون أي تعب في لبنان، وأنا ما زلت يافعاً، رحت أُدْعى الى أمسيات شعرية، وقد أوصلتني إحدى تلك الامسيات التي دعتني اليها حركة 24 تشرين التابعة للزعيم الطرابلسي فاروق المقدّم الى أستراليا، فلقد ألقيت فيها ما لا يحق لشاعر، أن يتفوّه به، ألا وهو انتقاد الزعامات اللبنانية ودعم المقاومة الفلسطينية، وبالطبع فلقد كان بعض الأزلام المندسين مشرورين في القاعة لالتقاط الانفاس قبل الكلمات، ولم أكن أتصور أن أمسيةً شعريةً ستقضي عليّ بتاتاً، فلقد قلت:
.. وَكَالْمَطَرْ/ يَتَسَاقَطُ الْخَطَرْ/ فِي بِلادٍ ضَائِعَه/ عارِيَةٍ وَجائِعَه/ وَكُلُّ مَنْ فِيها كَفَرْ/ أَوْ هَجَرْ
   وما أن ألقيت هذه الابيات عن الثورة الفلسطينية حتى انهمر الرصاص ابتهاجاً بالقصيدة، واليكم ما قلت:
لم يقتلوا طفلا اخواني/ أعرفهم حتماً أعرفهم/ فالرحمة هم/ والرأفة هم/ وليسمعْ كلُّ انسانِ/ لولا عدالةُ ثورتهم/ لفقدت بالعدل ايماني
   وانهمرت معه التهديدات، إلى أن تمكنوا مني أمام سينما الريفولي في طرابلس، فأشبعوني ضرباً وهم يصيحون: 
ـ انقبر سدّ بوزك.
   ولولا وجود أخي جوزاف وأحد أقربائي على الرصيف الآخر من الطريق لقُضِيَ عليّ بتاتاً.
   ورحلت الى أستراليا، دون ان تتركَني رحلةُ المتاعب والالم، فنشرت ديوان مجانين عام 1976، خلال الحرب اللبنانية اللعينة، عندما كان الجار يذبح جارَه على الهوية، وقامت القيامة علي لأنني قلت: 
.. وْكَانُوا يْقُولُوا بْلادْ الْخَيْرْ/ هِيِّي بْلادِي/ بْلادْ النَّسْمِه.. بْلاد الطَّيْرْ/ وجَوّ الْهَادِي!
.. وْكَانُوا يْقُولُوا إِنُّو بْلادِي/ قِطْعِةْ سَمَا/ أَللَّه.. لَوْلاَ وَفَا جْدُودِي/ مَا تْقَاسَمَا!
.. وْضَلُّوا يْغَنُّوا رْوَابِيهَا/ تَا صَارِتْ حُلْمْ/ وْبِالآخِرْ.. شَكُّوا فِيهَا/ رَايَاتْ الدَّمّْ
وِالنَّاسْ الْـ مَاتُوا صَارُوا/ حْكَايَات كْبَارْ/ يِحْكِيهَا الْجَارْ لْجَارُو/ عَنْ شَعْب حْمَارْ
رِضِي يِحْرُق دْيَارُو/ بْقَلب غضْبَانْ/ وْرِضِي يْفَوِّتْ مِسْمَارُو/ بْقَفَا لُبْنَانْ!
   وقد تتعجبون إذا قلت أن مجلة "النهار العربي والدولي" البيروتية قد نشرت هذه القصيدة يومذاك، واعتبرتها من أصدق الأشعار المتألمة، التي نشرت خلال الحرب اللبنانية.
   أما التهديد بالطرد من الوظيفة، والقتل، فكان يومَ نشرت ديوان "مناجاة علي" عام 1992، الذي ترجم لست لغات حتى الآن، وكنت يومذاك أعمل كمدرس للغة العربية في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، التابع لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، فغضب بعضُ الاهل مني وطالبوا بطردي من الوظيفة، خوفاً من أن أعلّمَ أطفالَهم شيئاً عن الدين الاسلامي، وراحوا يتصلون بي ويهددونني، ولولا حكمةُ الاخوات الراهبات لأصبحتُ بلا عمل. أما سببُ الغضب فكان المزمور الثامن:
بِفْتَحْ قَلْبي تا حَاكيكْ/ بْلاقيكْ بْقَلْبي مَوْجُودْ/ بْأَسْهَلْ كِلْماتْ بْناجِيكْ/ تا يِحْفَظْ كِلْماتي وْجُودْ
قَبْلي.. اللّي غَنُّوكْ كْتارْ/ جْمَعْت غْنانيهُنْ كِلاَّ/ بِكْتابي.. باقِةْ أَشْعارْ/ بَرْكي بْيِرْحَمْني أَللَّه
يَسُوع الْـ عَلَّمْني حِبّ/ يا عَلِي.. مِتْجَسَّدْ فِيكْ/ شَارَكْتُو بْآلام الصَّلْبْ/ وْخِفَّفْت عْذابُو يا شْريكْ
مُشْ رَحْ فَسِّرْ.. حَكْيي مْفَسَّرْ:/ سَيِّدْنا مْحَمَّدْ شُو قالْ؟!:/ إِنْتَ بْتِشْبَهْ عِيسى أَكْتَرْ/ بَيْنو وْبَيْنَكْ وِحْدِةْ حالْ
   وعام 1993، دعتني جمعيةُ بنت جبيل الخيرية، وكان يرأسُها يومذاك الدكتور الصديق قاسم مصطفى، لتكريم المحامي محمود بيضون الذي قضى معظمَ سنيّ عمرِه وراءَ القضبان، فماذا سأقول في مناسبة كهذه: هل أغني له: "حول يا غنّام حول".. أم "بدي أتجوز ع العيد".. هذا الانسان قد اضطهد وتعذب وعليَّ كشاعرٍ أن أشعُرَ معه وأتعذبَ وأُعذّبَ الجمهورَ معي، فألقيت قصيدةً بعنوان "قرف".. فالتهبت الاوساط الادبية والاعلامية وما زالت ملتهبة حتى الآن، وأعتقد أن أولَ المدافعين عنها كان أخي الشاعر شوقي مسلماني، ونكايةً بكل الذينَ هاجموني كرّمتني جمعيةُ بنت جبيل واهدتني درعَ المركب الفينيقي، القصيدة طويلة جداً ولكني سأقرأ المقاطع الحساسة بها:
نَفِّضْ عَنْ إِيدَيْك الْوَيْلْ/ بْغُرْبِه.. غَطَّى نْهَارَا لَيْلْ/ وْعَلِّقْ عَ كْفُوف الطّرْقَاتْ/ شَمْس وْبَدْر وْنَجْم سْهَيْلْ/ وْمِنْ رَوْضَكْ حَوِّشْ بَاقَاتْ/ ما بْتِحْمِلْهَا ضْهُور الْخَيْلْ/ وْمِنْ شِعْرَكْ جَمِّعْ أَبْيَاتْ/ مِنْشَافِه مِنْ تَانِي مَيْلْ/ وْلَفْلِف بِالشُّكْر الْكِلْمَاتْ/ وْقَدِّمْهُنْ وِالْعِطْر يْفُوحْ/ لِلْـ غَابُوا مِنْ بِنْت جْبَيْلْ
اشْتَقْنَالِكْ يَا بِنْت الْخَيْرْ/ وْبِنْت الأَرْض الْمَفْجُوعَه/ بْلادِي.. اللِّي غَنَّاهَا الطَّيْرْ/ لَيشْ غِرْقَانِه بِدْمُوعَا؟!/ بْتُوقَعْ كِلّ مَا تْجِدّ السَّيْرْ/ وْبِتْفَشْكِلْنَا بِوْقُوعَا/ حَرْقُوا الْجَامِعْ.. حَرْقُوا الدَّيْرْ/ وْخَنْقُوا الْكِلْمِه الْمَسْمُوعَه/ وْرِكْبُوهَا مَلْيُونْ "زْبَيْرْ"/ وْهِيِّي تَحْتُنْ مَوْجُوعَه!
   أما الهجوم المخيف فلقد حصلَ بعد أن نشرتُ عام 2005 في موقع ايلاف الالكتروني مقالاً رفضتُ فيه طلبَ أحد الأحزاب الاسلامية الذي يرأسه شيخٌ إسلامي فيتنامي، بأن تتحوّلَ أستراليا الى الشريعة الاسلامية، كما أرفضُ تماماً أن تتحوّل الى الشريعة المسيحية أو اليهودية أو البوذية، لأنني أريدها كما هي، هكذا جئتُ اليها وهكذا أريدها أن تبقى، ولكي لا أكررَ الحادثة اترككم مع ما كتب أخي وصديقي شوقي مسلماني في موقع إيلاف بتاريخ  16 ايلول 2005:
   "اليوم الجمعة فجراً وفي تمام الساعة الرابعة بتوقيت سيدني استيقظ الزميل الكاتب والشاعر شربل بعيني على صوت صراخ وشتائم باللغة العربيّة مع تهديد بوجوب "إقفال فمه". 
   وفي تمام السادسة صباحاً تفقّد الزميل بعيني سيّارته المركونة أمام بيته المؤلّف من طابقين في محلّة ميريلاندز فوجدها مغمورة بالبيض المحطّم دون غيرها من السيّارات. 
   وبعد عشرين دقيقة حضرت مفرزة من شرطة المنطقة وعاينت الحادث والتقطت صوراً وتمّ اصطحاب الزميل بعيني إلى مخفر شرطة ميريلاندز لأخذ إفادته بعد إشاعات سرت وسط أبناء الجالية العربيّة الأستراليّة أن ما جرى، له علاقة وطيدة بمقالات بعيني في صحيفة إيلاف الألكترونيّة، التي تعيد الصحف العربيّة الأستراليّة نشرها نقلاً عن إيلاف، وجرى بالتحديد ذكرُ المقالة الأخيرة التي يتحدّث فيها بعيني عن تشكيل حزب سياسي إسلامي في أستراليا يطالب بحكم الأستراليين ضمن قوانين التشريع الإسلامي، والتي أعادت صحيفة المستقبل اللبنانيّة ـ سيدني، نشرها صبيحة يوم الأربعاء الفائت". 
   وصدقوني إذا قلت إن أخبارَ ذلك الحزب الفيتنامي الاسلامي قد انقطعت تماماً بعد حادثة الهجوم، ولم يعد يسمع به أحد.
   بلبنان طلبوا مني أن أسد بوزي، وفي أستراليا طلبوا مني أيضاً أن أسد بوزي، ولم يعلموا أن الشاعر الشاعر لا يمكنه أن يسدَّ بوزه، ولو على قطع رأسه، وكم من رؤوس للشعراء قطعت وما زال شعرُهم يتكلّم.
   هذه بعض مواقفي الساخنة، التي آلمتني كثيراً، ولكنها في نفس الوقت أوصلتني الى ما أنا عليه من احترام ومحبة قرائي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق