مسرح شربل بعيني


أخبرتني الممثلة المهجرية المعروفة نجوى عاصي، أنها رافقت الفنان العربي القدير دريد لحّام في زيارته لمعهد سيّدة لبنان هاريس بارك عام 1993. وعندما سأل الراهبات عن أهم نشاطات المعهد، أخبرنه أن التلاميذ قاموا بعمل مسرحي جيّد إسمه "ضيعة الأشباح" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني. فما كان من الأخت مادلين أبو رجيلي إلاّ أن وضعت شريط الفيديو في آلة العرض، وراح "غوّار الطوشي" يطوش بعبقريّة صغارنا المغتربين، وبأدائهم الجيّد، وبتمثيلهم الرائع، وكأنهم خلقوا للتمثيل وخلق التمثيل لهم. فما كان منه إلاّ أن قال أمام الجميع: جميع وزارات الثقافة والتربية والتعليم في الدول العربية لا يمكنها أن تأتي بمثلها

نحن نعرف أن الوزارات العربيّة بإمكانها أن تأتي بأفضل منها لو شاءت، ولكن فناننا القدير أراد أن يبالغ بإبداء إعجابه بمسرحية اشترك فيها أكثر من 300 طالب وطالبة، أدّوا أدوارهم، بأقل من ساعتين، بإتقان بالغ وبطريقة يعجز عنها الكبار، رغـم أن أعمارهم تتراوح بين الثامنة والثانية عشرة لا غير

كما لا يسعني إلاّ أن أذكر أن الفنان اللبناني الكبير أنطوان كرباج قد استعان باحدى بطلات "ضيعة الأشباح" التلميذة أنطوانيت خوري، لتمثيل دور ابنته في مسرحية "كذّاب تحت الطلب". وأن المخرج التلفزيوني الشهير سيمون أسمر قد طلب من بطلة مسرحيات شربل بعيني التلميذة ريما الياس، أن تذهب إلى بيروت لأخذ دورها الطليعي في عالـم الغناء.
إذن، مدرسة شربل بعيني الفنيّة أطلقت الكثير من مواهب أطفالنا العمالقة.. وجعلتهم يشعرون بانتمائهم اللا محدود إلى تلك اللغة العربية التي ينطقها أجدادهم وآباؤهم

ورغم صعوبة التعامل مع مئات الأطفال في مسرحيّة واحدة، نجد أن شربل بعيني لـم يستسلم لليأس، بل أغنى الفن الإغترابي باثنتي عشرة مسرحيّة ولا أجمل.. فاعتبر عن حق "مؤسس المسرح الطفولي في أستراليا"، على حدّ تعبير رئيسة معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك الأخت إيرين بو غصن، ليلة افتتاح مسرحيّة "شارع اللبنانيين" عام 1997.
وإليكم لائحة بأسماء المسرحيّات التي ألفها وأخرجها:
فصول من الحرب اللبنانيّة ـ 1987
ألو أستراليا ـ 1988
الطربوش ـ 1989
ضيعة الأشباح ـ 1990
هنود من لبنان ـ 1991
يا عيب الشوم ـ 1993
أللـه بيدبّر ـ 1995
المدرسة ـ 1996
شارع اللبنانيين ـ 1997
جارنا أبوردجيني ـ 1998
طلّوا المغتربين ـ 2000
عصابات وبس ـ 2002
يا مار شربل - 2004
الكنز المسحور - 2005

وبما أنني حضرت معظم هذه المسرحيّات الخالدة، وكتبت عن بعضها، أجد لزاماً عليّ أن أعترف بأن كل واحدة منها كانت تقول للثانية: أنا أجمل منك. فلقد أوقعنا شربل بعيني بحيرة ما بعدها حيرة: من أين يأتي بأفكار مسرحيّاته؟ وكيف بإمكانه أن يسيّر جحافل من الأطفال بطريقة يعجز عن وصفها اللسان؟

قال الأستاذ جوزيف خوري في مقال نشره في البيرق العدد 1766، عن مسرحيّة "طلّوا المغتربين
"كل عبارة في المسرحيّة بحاجة إلى دراسة مطوّلة، رغم كوميديّتها الصارمة الهادفة، التي أضحكت الجمهور حدّ البكاء، وجعلته يتعلّق أكثر فأكثر بخشبة المسرح، دون ملل أو تأفف

وعن خبرة شربل بعيني في المسرح الطفولي، كتب الأستاذ بيار رفّول في جريدة الهيرالد، العدد 201، أن:
"الأداء الجماعي بيّن عن أنه أصبح له خبرة واسعة في هذا المجال"
وعن ازدحام القاعة بالحضور ليلة عرض مسرحيّة "فصول من الحرب اللبنانية" عام 1987، كتب الاستاذ بطرس عنداري في عدد النهار 547، ما يلي:
"شارك بالتمثيل حوالي 300 طالب وطالبة، وهذا حدث هام بحد ذاته، ولوحظ ازدحام القاعة الكبرى بالحضور، الذي زاد عن الألف نسمة

أما عن احترام قدسيّة الوقت أثناء عرض المسرحيات، فلقد كتب الاستاذ جوزاف بو ملحم في صدى لبنان العدد 554، ما يلي
"المسرحية بدأت في وقتها المحدد، والذين تأخّروا ثواني فاتهم أن يروا بعض مشاهدها، فكأنما شربل بعيني وطلابه ثورة إجتماعيّة بيضاء، تحاول تخليص شخصيتنا الإجتماعيّة مما علق بها من أمراض عدم احترام الوقت، وقلة التقيد بالمواعيد، وإذا الثانية عندهم ثانية، هي جزء من العمر، تقال فيها كلمة، تمثّل حركة، يفتضح أمر أزعر، تسدى نصيحة، ويلطش زعيم

وقد خصّ الاستاذ أنور حرب مسرحيّة "الطربوش" بمقال نشره عام 1989، في عدد التلغراف 2011، جاء فيه
"الفكرة ناجحة وتستحق التنويه، والتنفيذ رائع يستوجب التقدير، والتمثيل حيّ لأنه ينطلق من قلوب بريئة لـم تدنّسها أوساخ السياسة

ولكي يحوّل النثر إلى شعر، ولغة الجرائد إلى أدب، راح رئيس تحرير جريدة التلغراف الأستاذ أنطوان قزّي يصف مسرحيّة "يا عيب الشوم" في العدد 2526، بهذه العبارات

"من الثبات، من غفلة الساعات المتسارعة، من عجقة الأرصفة المظلمة، يوقظنا شربل بعيني، ويحملنا إلى مسرح سيّدة لبنان مشاهدين، مستلهمين، معجبين، حاملين في أيدينا أسراب عصافير، ولتبقَ الأشجار بلا أطيارها، نغمض العيون على الفرح الآتي من فوق، من على الخشبة، نغمضها جيّداً كي لا نطل على الشارع من جديد على درب "يا عيب الشوم
هنيئاً لنا بصغارنا الكبار، براهبات ساهرات، وبشاعر أقل ما يقال فيه انه يصهر من الطفولة ما يغني عن سفسطة البلغاء

إذن، نجاح مسرحيّات شربل بعيني، وباعتراف رؤساء تحرير الصحف المهجريّة، لا غبار عليه، لا من ناحية التأليف والإخراج، ولا ناحية الفكرة، ولا من ناحية التمثيل، ولا من ناحية الحضور.. حتى ولا من ناحية احترام الوقت

ألـم أقل لكم إن شربل بعيني لـم يدخل مهنة التعليـم في معهد سيّدة لبنان، إلاّ حبّاً بأجيالنا الصّاعدة. وها هو الاستاذ أنور حرب يرى ما أرى في مقال نشره عام 1990، في عدد التلغراف 2089، عندما قال
"هذه النواة يسهر شربل بعيني على زرعها ورعايتها في النفوس البريئة، ويرعاها كي تنمو في المستقبل وتزهر وتثـمر

كما أن الاستاذ أنطونيوس بو رزق قدّم شكره للشاعر بعيني عام 1989، على ما يقوم به من أجل تنشئة أزهار الغربة، فكتب في صدى لبنان العدد 677، ما يلي
"أخيراً، لا بدّ لنا أن نشكر كاتب المسرحيّة ومخرجها الشاعر شربل بعيني، الذي عمل من مسرح سيّدة لبنان تقليداً سنوياً ينتظره الجميع بفارغ الصبر كل عام، والذي ساهم ويساهم في إنماء الحس الفني لدى التلاميذ الذين من المؤهل ان يكون لهم شأن في عالـم الفن والرقص والتمثيل

وهل أجمل من اعتراف المربي الكبير المرحوم فؤاد نمّور، في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 13 تموز 1990:
"بأن شربل بعيني قد وصل الذروة في مسرحيته السابقة "الطربوش" إلى أن حضرت "ضيعة الأشباح" فاكتشفت أن درجات سلّمه طويلة، وانه قادر على اكتشاف المواهب بين طلابه إلقاء وتمثيلاً وغناء ورقصاً

وهذا ما أكّده الدكتور جميل الدويهي في جريدة صوت المغترب العدد 1060، عندما اعترف أن شربل قد تمكّن في أحيان كثيرة من اختراق السقف المسرحي
".. وإذا كان شربل بعيني قد وجد نفسه مقيّداً في أمور كثيرة، منها اضطراره لإظهار 600 طفل في مسرحيّة واحدة، مما يعني اضطراره أيضاً لمراعاة قدرة الأطفال على الحفظ والأداء.. فإنه في الوقت نفسه استطاع أن يقدّم عملاً جيّداً، وفي أحيان كثيرة تمكّن من اختراق السقف الذي حددته له قدرة هؤلاء الشبّان، كما في المقطع الذي دار بين "البصّار" والفتاة التي تبحث عن عريس

أما الاستاذ أنطوني ولسن فكان في كل مرّة يفكّر فيها بمستقبل الأطفال يلجأ لصديقه شربل بعيني، وها هو يستنجد به في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 10 آب 1990:
"وأخيراً أعود إليك يا شربل، فسامحني.. لماذا أفكّر بك عندما يرتبط تفكيري بالأولاد، ربما أحس بإحساسك المخلص تجاه هؤلاء الاولاد، وإني أتمنى أن تقود أنت المسيرة لخلق جو إجتماعي يهتم بأولادنا في المهجر

ومن أجل إيجاد مثل هذا الجو الإجتماعي، ارتأى الأستاذ هاني الترك أن تعرض مسرحيّة "عصابات وبس" في المدارس الأخرى، فكتب في جريدة التلغراف، العدد 3891، الصادر في 3 تموز 2002، ما يلي:
"إن المسرحيّة عمل فني رفيع، ويجب أن يعاد تمثيلها في المدارس العربيّة الأخرى. إذ من الواضح أن الشاعر بعيني قد بذل فيها الجهد الضخم، وهي مسرحيّة فنيّة تثقيفيّة تعليمية ترفيهيّة.
إنها مسرحيّة تستحق العرض على باقي أطفال الجالية العربية واللبنانية في المدارس الأخرى. تحيّة إلى البراعم الأطفال الذين جسّدوها على خشبة المسرح

لقد منّ اللـه على شربل بعيني بوزنات أدبيّة وفنيّة كثيرة، وأعتقد أنه عرف كيف يتاجر بوزناته ويضاعفها، وكيف يحوّل صحراء غربته إلى حديقة غنّاء تنشد فيها فِلَذُ أكبادنا أجمل الألحان وأرقّها

هناك تعليق واحد: