مخايل ابراهيم سفير الكلمة الوطنية الحرة/ شربل بعيني




 رغم مرور أكثر من ستين سنة على سماعي بيتين من الشعر الزجلي في لبنان، أجد نفسي مرغماً على ترديدهما في غربتي، كلما اختليت بنفسي، وهما:

الدهر بإيديي لجمتو

وبليس بحجره رجمتو

حافر مهري انصاب الموت

مطيّر طاسة جمجمتو

   كنت يومذاك بالتاسعة أو العاشرة من عمري، وكان شاعر هذين البيتين التاريخيين العالقين في ذهني، يزور المرحوم عمي باخوس البعيني، ويقيم بمفرده حفلة زجلية في بيته، ولا أروع.

   ورغم صغر سني، فلقد طلب مني عمي أن أرد خلف الشاعر الضيف، وأن أصفّق بيديّ حسب وقع الوزن الشعري، ولهذا حفظت هذين البيتين المذكورين سابقاً.

   فمن هو هذا الشاعر الذي احتل ذاكرتي وأبى أن يمنحها الإستقلال، رغم الغربة والبعد عن الوطن؟

   إنه الشاعر الزجلي الشهير مخايل إبراهيم صاحب "حقل الشعر"، وحقول الإبداع، والومضة الشعرية النابضة بالدهشة.

   ورغم إبداعه الشعري، فلقد ترك لنا نسلاً شعرياً لا يقل ابداعاً عنه، ومن حظي أن الغربة جمعتني بولدين منه، هما الشاعران لطيف ونبيل مخايل.

   وبما أنني أكتب هذا المقال في شهر رمضان المبارك، يسرّني أن أطلعكم على هذه الردة المدهشة:

وجهك بريشة نور ألله مبودرو

وعا دروبك ملوك الجمال تأخرو

لا تمرقي برمضان بين المسلمين

بيفكرو طل القمر وبيفطرو

   ومن منا لم يقرأ أو يسمع عن غرق المراكب التي تحمل طالبي اللجوء الانساني من كل شعوب الأرض، ما عدا الشعب اللبناني، فلنسمعه يقول:

بيغرق بقلب البحر شعب الأرض

بس ما بيغرق شعب لبنان

   وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، فرغم الحرب الأهلية الطاحنة التي أدمت قلب لبنان الى الأبد، لم نجد مخيمات للاجئين اللبنانيين، ولم تبحر مراكب اللجوء، كي تغرق في البحر، بل بقي شعب لبنان يتمتع بكرامته وعزّة نفسه، حتى في أحلك الظروف.

   وأثناء زيارته لأستراليا، تهافت المغتربون لتكريمه، ولسماع قصائده، وكلهم من أثرياء الجالية، ولكنه لم يأبه بأموالهم، فقال:

الأكثريه طفّحو الجزدان

وبعدنا نحنا بكرامتنا

قلتلهم: هادا الشعب غلطان

قالو: يا شاعر وين غلطتنا

قلتلهم: وينو الوطن لبنان

وحياتكن مال الشرق والغرب

ما بيسوى شلش أرزتنا

   إنه شاعر الكرامة، وما نفع الشعر بدون عزّة نفس؟ وما نفع الكرامة دون الالتفات الى من ضحّوا بدمائهم من أجل استقلال لبنان، وحماية شعبه من الاستبداد العثماني الغاشم، ومن أفضل من البطل يوسف بك كرم الذي مات منفياً عن إهدن، بتكريم الشعراء وتخليد ذكره، فلنسمعه يقول:

لو ما حسامك يا بطل لبنان

كانت بلادي احتلّها التركي

مفروض كلمن في معو إيمان

عن ضريحك ياخد البركي

   الأبطال الشهداء بنظر مخايل ابراهيم قديسون، ويجب التبارك منهم، أي أن نحذو حذوهم في الدفاع عن بلادنا، وحفظ حقوق شعبها، ليس من أجلنا، بل من أجل الأجيال القادمة. فلقد ورثنا الأرض عن أجدادنا ومن حق أطفالنا أن يرثوها عنّا أيضاً.

  وكشاعر عملاق، لم ينسَ عمالقة الشعر الذين رحلوا، فلقد أبدع حقاً في القصيدة التي ألقاها أمام تمثال أسعد السبعلي في بلدة سبعل الشمالية، فلقد قال رحمه الله:

يا مسيح الشعر.. وحياة المسيح

حسدت الحجر ها الإسمك عليه انحفر

وحياة من مشّى المخلّع والكسيح

عا الصخر لما شفت اسم السبعلي

تمنيت حالي كون في سبعل حجر

   ألله، الله، ألله.. كم أنت محظوظ أيها السبعلي التمثال، فلقد أعطاك ابن حقل العزيمه، ما لم تعطك إياه الحياة، فلقد تمنى أن يهبك حياته، شرط أن تهبه حياتك، اي أن تعيش في شعره، كي يعيش هو كالتمثال حجراً.

   ولم ينسَ أبو حاتم قول أحد الشعراء لملكه: على رأسك التاج وفي يدي القلم.. أي أن النصر سيكون للكلمة لا محال، وهذا ما أثبته بقوله هذا:

والقنبله اللي قابلي التفجير

في سلاح بيدمّر معاملها

ومهما الكلمه يكون حجما زغير

لو بطّلت هالأرض فينا تدور

ما في حدا قادر يبطّلها

   أي الكلمة أقوى من القنبلة، الأولى تبني والثانية تهدم، أما قال الله في إنجيله: في البدء كان الكلمة؟.

   ومن النسل الذي أهداه للبشرية، أبدأ بنشر بعض أبيات ابنه البكر حاتم، قال:

الزمن في معجزه من معجزاتو

بعد ما شاف منها في حياتو

خلق شاعر أمير العبقريه

لسان الوصف عاجز عن صفاتو

إسمو مخايل ابراهيم بيي

إذا بيطلع على كراسي المنابر

بيطلع مدرسه بالشعر ذاتو

   ومن شعر ابنه نبيل أنشر ما يلي:

يا حاج ابنك كل ساعه فلفشو

انشالله جناحو عا السعاده يريّشو

ويربى بحنان الوالدين بإعتزاز

ويحميه ألله والمسيح يعيّشو

ومن شعر ابنه لطيف أختار ما يلي:

حسن القمر من سحر ضيعتنا انسحر

والشمس بتدلّي عليها حبالها

عا جبالها بتنخ تا تطال القمر

وشلال نور الشمس من شلاّلها

   وأختم رحلتي القصيرة مع "حقل الشعر" بأبيات خالدة لصاحب الديوان، يقول فيها:

ها الأرزة اللي عمرها بعمر الزمان

غصونها الغيمات ما بتطالها

مكبشي بجبالنا.. ونحنا كمان

مكبشين بهالأرض كرمالها

   لله درّك يا أبا حاتم، فلقد اختصرت في هذه الأبيات الرائعة، شعور اللبنانيين أينما كانوا، ونبت عنّا نحن الشعراء في قول الحق، والإفصاح عمّا يجيش في صدورنا من محبة تجاه وطننا الحبيب لبنان.

   لقد كنت، وبحق، سفير الكلمة الوطنية الحرة.

**

شربل بعيني ـ سيدني ـ أستراليا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق