عبدو الياس اللبناني.. قصة رامز رزق الرائعة

أهداني الدكتور رامز رزق مجموعة جديدة من كتبه القيّمة، فما أن تصفحت العناوين حتى تسمّرت عيناي على "عبدو الياس اللبناني" هذا العنوان المؤلف من ثلاث كلمات، كل واحدة منها تشدّك لقراءة القصّة، فكلمة "عبدو" تدل على اسمٍ مشترك بين كافة الأديان، تماماً كإسم "الياس"، أما كلمة "لبناني" فتنقلك حالاً إلى خارج لبنان، وتخبرك أن القصة تدور في بلد ما، لتصبح أداة تعريف بجنسية بطل القصة "عبدو الياس".
و"عبدو الياس" ليس سوى طفل من بلدة "الدامور" لا يتجاوز عمره الثماني سنوات، جرفه الحكم العثماني الظالم من مكان الى مكان كوريقة خريفية ضائعة في مهب الريح. 
عندما ضرب الوباء معظم المناطق اللبنانية، وتسلّط شبح الجوع والموت على سكانها، قرر سعيد أخو عبدو الأكبر أن يحمل أخاه على كتفيه، ويهرب به من عالم الفناء الى عالم البهاء، ولكن حساب حقله لم ينطبق على حساب بيدره، فشعر أن أخاه الطفل قد بدأ يتلاشى بين يديه، وأن الاصفرار بدأ يغزو وجهه، فراح يناديه وما من مجيب، فأيقن أن الطفل مات، فتركه على حافة الطريق، وأكمل سيره الى المجهول، وهو يندبه بهذه الكلمات الموجعة:
ـ يا حسرتي عليك، أنا عاجز حتى عن دفنك، سامحني.. سلمتك بيد الله".
والظاهر أن الله قد سمع نداءه، وتسلّم بيده أخاه "عبدو" ليسلمه الى عابر سبيل، بغية إنقاذ حياته:
ـ سآخذك معي الى صيدا، تركب خلفي على البغلة.
هذه هي الانسانية التي أراد الدكتور رامز رزق أن يسلط الأضواء عليها، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقبلية، فالانسان أخو الانسان، أولاً وآخراً، وهذا ما رأيته عندما اقتربت إحدى سيدات "صيدا" من ابن الدامور الطفل وسألته:
ـ ما اسمك؟ ومن أين؟
ـ أنا عبدو الياس من الدامور.
ـ الليل في أوله.. ابق الليلة عندنا.
إنها الأم اللبنانية التي تحضن أبناءها بحنان بالغ، تماماً كزوجها الشهم الأبي الذي دخل منزله فوجد ضيفه الصغير فقال:
ـ بنت حلال، دائماً تسبقينني الى عمل الخير.
رامز رزق في قصته هذه يريد أن يعيد أمجاد العائلات اللبنانية، أن يحيي قيمها الاجتماعية، وضيافتها المميزة، وحنوها الطاغي. يريد أن تصل رسالته الى الاجيال الجديدة التي طغت أنانيتها على محبتها، وتقوقعت في زوايا الانكماش الذاتي غير عابئة بأحد.
قصة "عبدو الياس اللبناني" ملأى بعمل الخير، فما أن يمر فصل حتى ترى الفضل ينهمر على "عبدو" من أيادٍ مباركة، إلى ان وصل الى قرية "الدامون" قرب عكا في فلسطين، هناك استقبله شيخ "الدامون" بترحاب ومحبة، وسلّمه لصديقه كاهن "الدامون" الذي ربّاه بين بناته، وحسبه كإبن له.
وكما ترون، فلقد فتّش الدكتور رزق عن اسم بلدة مشابه لاسم "الدامور" فاختار "الدامون" كمسرح ثانٍ لأحداث قصته، ليعلم القارىء أن أسم القرى في وطننا العربي تتشابه كثيراً، لا بل تتآخى من حيث اللفظ.
كنت وأنا أقرأ، أفكر بشيء واحد فقط، هل سيجد "عبدو" أخاه "سعيد" الذي رماه على حافة الطريق وأكمل سيره الى فلسطين. وماذا سيقول له عندما يلتقيه؟ هل سيشتمه؟ هل سيضربه؟ وقد أصبح شاباً مفتول السواعد. فلنستمع إليه:
ـ يا لئيم، كيف طاوعك قلبك وتركتني؟
ـ أنا ما تركتك، قال "أخوه سعيد" بأسى، حتى قطعت الأمل، لم يكن أمامي إلا صورة الولد الأصفر الوجه، كان بينك وبين الموت نفس واحد.. حركتك، ناديتك.. كانت قوتي خائرة لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى البحث عن لقمة، أي لقمة، ولو نفاية".
ـ الحمد لله أنك كنت خائر القوة، وإلا لكنت دفنتني.
ـ المهم أننا اجتمعنا أخيراً.
صحيح أن نهاية قصة الدكتور رزق مفرحة، ولكنها موجعة في آن واحد، إذ اختصرت المصائب التي حلت بالشعب اللبناني خلال الحكم التركي العثماني بعبارة واحدة "كانت قوتي خائرة لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى البحث عن لقمة، أي لقمة، ولو نفاية".
قصة "عبدو الياس اللبناني" يجب أن تتحول الى فيلم سينمائي يجسد معاناة الشعب اللبناني على مر العصور، ويظهر محبته واندفاعه في خدمة بعضه البعض، لأن المصير واحد، والعيش واحد، والتراب واحد، والوطن واحد.
شربل بعيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق