أعجبت به كشاعر دكتور، وأحببته كمنبري من الطراز الأول، وسمعت الكثير عن جولاته وصولاته في عالم المرافعات القانونية، ولكن لم يتكلّم عنه أحد كأديب يتشاوف نثره على شعره في أماكن كثيرة، ولكي تعرفوا ماذا أقصد إليكم ما أبدع.
في مقاله النثري "دموع الخريف" الذي منه انبثق عنوان ديوانه الأخير، نراه يحوّل وادي بلدته "تنورين"، الى ملكة "متشحة بملابس السكينة والوقار".. "متربعة على عرش الأبد"، تاجها "جبال مشرئبة نحو السماء، وفي عينيها المقدودتين من الصخور السمراء صولجان الزمان".
هذا هو نثر الدكتور مروان كسّاب، يحول الجماد الى بشر، ليسكرهم "بخمرة الحنين والخيال"، ولو لم يفعل ذلك لما تمكن من تحويل واديه الى "وادي الشعر والخيال" حيث "تتألّق آيات السحر والجمال".
هناك قرب ذلك الوادي تعلّم كيف يتلو "صلاة الشعر على موسيقى زقزقة العصافير، وخرير المياه المنسابة على وجنات ذلك النهر الهادر".
سأتوقف قليلاً عند عبارة "وجنات ذلك النهر" أي "خدوده"، وأسألكم: هل هذه أنسنة للأشياء أم لا؟ وهل سمعتم بوجنات نهر إلا في نثر الدكتور مروان كسّاب؟
ولكي يرضي الجماد بعد أنسنته، حوّل أباه الى "شجرة حزينة.. نمت وتعالت نحو السماء"، ولكن القدر لم يرحمه، فرحل، "تاركاً وراءه.. غيوماً من الأحزان".
أما عن شاعرية أخيه وليم، فحدّث ولا حرج، فلقد وصفها بشكل تعجز عنه كاميرا التصوير: "شعر دفّاق كالجدول الرقراق، ونغم عندليبي تسكر على رنّاته ربّات الجمال وأوتار الخيال". وليس هذا فحسب، بل انه طويل القامة، بهي الطلعة، "تواكبه التفاتات الحسناوات، والقامات الفارعة طمعاً برؤياه، واستماع كلماته المتساقطة من غيوم أفكاره وعواطفه، مثل الرذاذ المترنح على وريقات الحبق".
من غير ابن القرى الجبلية اللبنانية، يقدر على مشاهدة رذاذ الندى على وريقات الحبق كحبّات ماسيّة شمسية الاشراق واللمعان، ليصوره بهذه الدقة، وينقل الصورة بعبارة واحدة؟
ولكي يثبت أن الموهبة لم تأته هو فقط في عائلته، يخبرنا أن أخاه فايز مثل وليم كان "بيدر عطاء، ونبع معرفة لا ينضب". وإذا كانت الصبايا تتهافت لرؤية أخيه وليم، فإن الرجال يتهافتون لسماع أخيه فايز "من على كل منبر وفي كل مجلس يتهافت إليه رجال الفكر والشعر والادب والخطابة".
وبما أن فقدانه لأحب الناس الى قلبه، كان أقوى منه، وقف بين الحياة والموت، وهو يتأوّه: "نعم، ما أصعبها وقفة، لا بل ما أرهبها ساعة"، وراح يفلسف الحياة بطريقة جديدة اذ حولها الى "طالبة في معهد التجارب والآراء والأحكام"، وراح يتساءل على مدار الدقائق والساعة عن مفهوم الموت في هذه الحياة "المرصعة بالاحلام الزائفة"، التي "يشد بها السراب" نحو "محاولات يائسة، تزيد المحتاج حاجة، والعطشان عطشاً". وها هو يستنجد ببيت شعري فلسفي لأخيه المرحوم وليم كي يثبت نظريته عن الموت والحياة:
إن التأمل في الحياة
يزيد آلام الحياة
هذا الـ "وليم الشاعر" الذي رثاه أخوه مروان بأجمل بيت شعري قرأته في حياتي:
وتنام ملء العين أنت ولا ترى
ما يفعلُ العدمُ اللئيم بحالي
ماذا بإمكاني أن أقول بعد هذا؟
ألا يلزمني كتاب كامل كي أشرح هذا البيت من الشعر الذي يختصر آلامنا البشرية بعشر كلمات؟.
بلى والله.
فيا أخي مروان كسّاب، يا دكتوري المتواضع، يا شاعري الحبيب، ويا أستاذي الكبير.. لقد أحببتك شاعراً زجلياً، وانحنيت أمام شعرك العمودي الفصيح، ولكني، والحق أقول، ما زلت أطير على أجنحة نثرك الرائع، الذي يبزّ الشعر، ليبقى سيد نفسه.
وفقك الله والى ابداع آخر باذن الله.
شربل بعيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق