الملائكةُ تهبطُ في سِيدني/ فاطمة ناعوت


نصف الدنيا ـ القاهرة
«يمكنُ لشاعرٍ/ أن يشقَّ البحرَ بخنصرِه/ يروِّضَ المعاركَ/ يلهو بقطعِ الكونِ فوق طاولتِه/ ثم يُخرجَ من جيبِ سترتِه حِفنة شهبٍ/ ينظِمُها عُقدًا لامرأتِه/ وحدَه الشاعرُ/ مَن أقنعَ التاريخَ/ بالتنحّي.

هي لمْ تقرأِ الكتابَ على النحو الصحيحْ/ وإلا لتعلَّمتْ أن الشاعرَ/  إذا صنعَ آلافَ الأوراقْ/ فإنه فقط يريدُ أن/  يطيـــــْر.»

الشعراءُ مجانين. يلهون بقطع الكون في قصائدهم. ينثرون النجومَ فوق فساتين الصبايا. يسرقون القمرَ ويخبئونه تحت وسائد الجميلات. يُجبرون الشمسَ أن تحنوَ على رؤوس الأصدقاء المسافرين. ويأمرون الغيماتِ أن تُظلّلَ العشاق. الكونُ بأشيائه مُلكٌ لهم، وعلى المُتضرِّر، اللجوءُ إلى محكمة الشعر. فالشعراءُ أطفالٌ لا يعرفون الأوراقَ الثبوتية وعقودَ الملكية والأسوارَ والحدود. لهذا أهداني الشاعرُ اللبناني «شربل بعيني»، ثلاثة جبال متجاورة بأستراليا، وأهديته أهرامات الجيزة المصرية. 

وتقول الأسطورةُ القديمة إن شقيقاتٍ ثلاثًا، من قبيلة كاتومبا، أحببن ثلاثة أشقاءٍ من قبيلة نبيان. لكن قوانين القبيلة منعت زواج الأحبة. فقرر الفرسانُ اختطاف الحبيبات. واشتعلت حربٌ بين القبيلتين، خُشي معها أن تصابَ الجميلاتُ الثلاث بسوء، فحولهن كبيرُ السحرة إلى ثلاث صخور، على وعد بإعادتهن إلى صورتهن البشرية بعد انتهاء الحرب. لكن الساحرَ قُتل في الحرب، ولم تُفكّ التعويذة إلى يومنا هذا، فأخذت الجبال اسم:  Three Sisters   

أنا اليومَ في سيدني أتسلّمُ هديتي الأسطورية. فمنحتني السماءُ هديةً أخرى تسلّمتها في حديقة سيدني المركزية أمام شهود من حشود الكنغر والطواويس والنعام والببغاوات: جائزة «شربل بعيني» الأدبية التي أسسها الأديبُ اللبناني الراحل د. عصام حداد. والحقُّ أن هناك رابطًا بين الهدية والجائزة؛ إذ يقول حداد في شعار الجائزة: «على مَن ينال هذا الوسام أن  يكون على قدر المسؤولية، فمن يحمل جائزة،  كمن يحمل جبلاً.  إما أن يمشي مرفوعَ الرأس، وإما أن يرزح تحته.»
في طريقي إلى مصر، سأحملُ ميدالية الجائزة، وأترك الشقيقات الثلاث في مرقدهن الجبليّ الأبدي بأحضان Blue Mountains لكيلا أُغضِبَ أبوريجينال، سكان أستراليا الأصليين. على أن يتذكر كلُّ سائح يزور الشقيقات الثلاث، أنه يجول في ربوع هدية أهدانيها شاعرٌ عذبٌ، جاء من لبنان يحملُ الشِّعرَ والحب ووجع الأوطان و«الغُربة».

لكنني أعود إلى مصرَ وفي جعبتي كنوزٌ أثقلُ من الجبال. قلوبُ الملائكة التي هبطت من عليائها إلى أرض سيدني لتمنحني الحبَّ والدفء والرعاية. بدءًا بالحسناوات اللواتي استقبلنني في مطار سيدني بزهور زنبق أزرق وبالونات ملونة وعيون طيبة تسكنها بسماتُ فرحٍ باللقاء الأول، وليس انتهاء بعشرات اللمحات والمواقف التي تشير إلى المحبة النظيفة التي غمروني بها على مدار أيامٍ عشرة؛ حتى اكتشفتُ أني أثرى أثرياء العالم بحبّهم، وأجملُ جميلات الأرض بجمالهم. فالمرءُ ثريٌّ بقدر ما يمنحه الناسُ من حبّ، وهو أشدُّ الناس فقرًا وبؤسًا إن حُرم ذلك الحبّ. 

الملائكةُ الذين هبطوا في سيدني ليملأوا جعبتي بالفرح، أكثرُ من أن يحتوي جمالهم مقالات أو أسفارٌ. لبنانيون سامقون في عالم الشعر والصحافة: شربل بعيني، جوزيف بو ملحم، إيف خوري، إيلي ناصيف، وعليّ حمود، والشاعرة الأسترالية آن فير بيرن. ومصريون من زهور أرض طِيبة، طار شذاهم إلى المحيط الهادي، لكن جذورهم الخضر مازالت مزروعة في مصر: ليلى، مينا (موحّد القطرين)، إيناس، راندا، حنان، رامي، هاني، القنصل المصري بسيدني د. أيمن كامل، ونائبته إيناس الجنزوي. 

 اختفى شربل من بين مَن جاءوا لتوديعي في رحلة العودة بعدما غمرني بوجوده الغنيّ الصاخب طيلة إقامتي بأستراليا. لكنني وجدتُ في بريدي الإلكتروني هذه الرسالة: «ودّعتُكِ في آخر الفيديو بأغنية فيروز: «مصرُ عادتْ شمسُكِ الذهبُ»، لأنني عاجزٌ أن أودّعك.» 

وها هو الفيديو الذي سجل رحلتي الفريدة لبلاد الغجر والملائكة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق