الباحث نُعمان حرب ورسالة الحياة الكريمة

أ.د.حسين جمعة
لا يمكن أن تسمى الحياة حياة إذا لم تتصل بقيم الخير والفضيلة، وهي ليست جديرة بالاحترام إن لم تقترن بالعطاء والجهد الصادق المبدع... فالعمر ليس مجرد زمن فيزيائي يعيشه الإنسان منذ الولادة حتى الممات، وإنما هو وجود حقيقي واعٍ فاعل بالحياة ومؤثر في أشكالها كلها... إنه حقاً التزام طوعي نحو الوطن وإيمان خلاّق بالمثل الرفيعة... والأخلاق الكريمة... ومحاربة الرذيلة والشر والفساد والتخلف...

وحينما تكون الحياة كذلك فإنها تستحق أن تعاش، وأن يسمى الإنسان إنساناً ولذلك يقول الشاعر: (الشهيد محمود أبو يحيى: ص12)

نحن لا نحسب الحياة حياةً

أو نفدّيْ أوطاننا المعبودَهْ

نحن والموت صاحبان على الدَّهر حشدنا أرواحنا وبنوده

لن نراها إن لم نمت في هواها

أُمّةٌ حُرَّة ودُنْيا جديده

فالعطاء يتجلَّى بمعان وصور لا حدود لها، وأعظمها ما يتمثل بالفداء؛ والتضحيةُ بالنفس أقصى غاية الجود وأشرفه... فالشهيد "أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر" آثر محبة الوطن على محبة نفسه وذويه؛ فصار منارة للهدي والإيثار فاستحق الخلود في الدنيا والآخرة...

وإذا كان الشهيد قد انتزع حرية الوطن من يد جلاديه، وسطَّر بَصْمة الخُلود بدمه فإن المبدعين من المفكرين والمثقفين قد تركوا بصماتهم في جنبات الوطن حارسة لثقافته ومحافظة على وجوده، وعاملة على نهوضه وارتقائه... فحياتهم حياة إبداع واستلهام وإلهام،... وما تركوه من إنتاجات فكرية وفنية وأدبية وعلمية... ظل أثره على الدوام في النفوس..... فهُم وحدهم من يستطيعون صياغة الحياة متميزة... تدفع الأجيال بعدهم إلى احترامهم، والاعتزاز بهم... والسير على دروبهم...

وفي ظلال هاتين الفئتين فئة الشهداء والمجاهدين وفئة الشعراء والأدباء والمفكرين تفيأ الباحث الأستاذ نعمان حرب؛ فعاش حياة هؤلاء وأولئك حين مارس نشر حياة البطولة وكرمها؛ وحياة الإبداع وأريجه...

ومن هنا جعل مهمته ورسالته في حياته أن يعرّف الأجيال بأبطال خلَّدوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ فأصدر سلسلة (أبطال منسيون)، وأن يعرّف هذه الأجيال بأولئك الذين جاهدوا من أجل لقمة العيش فاغتربوا بعيداً عن الوطن العربي، ولكن الوطن بقي في قلوبهم ونفوسهم ملء الكون، فصاغوه أغنية عذبة، تلقفها فكر الباحث المحتفى به اليوم فأصدر سلسلة (قبسات من الأدب المهجري) زادت أعدادها على عشرة أعداد من إصدار (دار مجلة الثقافة في دمشق)...

وإذا كان المرء لا يستطيع أن يحيط بذلك كله فإن الواجب يحتم عليه أن يذكر أهم إصداراته التي عني بها، وأن ينوّه بهاوبه... فالباحث عُرف بسلسلتين وهما:

أ-سلسلة (قبسات من الأدب المهجري):
وهي كتيبات من الحجم المتوسط (16 × 13)، وصفحات كل كتيب أقل من مئتين وخمسين...

وكان الباحث يضع بين يدي الكتيب للأدباء المهجريين بمقدمة، ودراسة تفتح الباب للقارئ، وتهيئه لأهم مفاصل الأدب أو الشعر. وكان يركز منها على الرؤية الأدبية المحملة بالفكر الوطني والقومي... فضلاً عن التعريف بالعلم... فقد توقف مثلاً في دراسته عن الشاعر شفيق عبد الخالق عند (المنبت الأصيل، في الجامعة الوطنية، طموح الشباب، طريق الهجرة شفيق عبد الخالق عند (المنبت الأصيل، في الجامعة الوطنية، طموح الشباب، طريق الهجرة؛ إلى البرازيل، تفتح البراعم، سيل منهمر، عصبة الأدب العربي)....

وتعد دراسته الموجزة بنحو (18) صفحة مع المقدمة إضاءة سريعة للشاعر وشعره؛ وكذا في بقية السلسلة، وهي:

1-الشاعر فارس بطرس –البرازيل.

2-الشاعر حنا جاسر –الأرجنتين.

3-الشاعر شفيق عبد الخالق –البرازيل.

4-الشاعر نبيه سلامة –البرازيل.

5-الأديب نواف حردان –البرازيل.

6-الأديبة انجال عون –البرازيل.

7-الشاعر شكيب تقي الدين –البرازيل.

8-الدكتور عبد اللطيف اليونس –البرازيل.

9-الشاعر جورج يوسف شدياق –فينزويلا.

ويلحظ المرء أن الباحث قد خص أدباء المهجر الجنوبي (أمريكا اللاتينية) ولا سيما البرازيل؛ وإن كانت سلسلته ستضم بعض أدباء أستراليا؛ وقد ألحق بها كتيبين وهما:

10-السجل الذهني لأدبائنا المعاصرين في البرازيل وفينزويلا.

11-الثورة أو سلطان الأطرش –شعر الدكتور فريد عقيل.

وسيتبع في هذه السلسلة بعض الإصدارات الأخرى كما وعد بها، ومنها:

1-الشاعر شربل بعيني –استراليا.

2-الشاعر إبراهيم سلمان –البرازيل.

3-الشاعر نعيم خوري –استراليا.

4-سلطان الأطرش في رحاب الأدب المهجري.

ب-سلسلة أبطال منسيون:
يلحظ المرء أن هذه السلسلة عبارة عن كراسات صغيرة من الحجم العادي؛ وأكبرها حجماً لا يتجاوز الواحدة، أي نحو (16) صفحة.

وكان يتحدث في كل سلسلة عن البطل، مولداً وبطولة ووفاة، وما قاله فيه بعض المؤرخين، أو الشعر... ولم يكن يعنى بتفصيل الخبر التاريخي أو دراسة الشعر...

فالباحث جعل كراساته عن أولئك الأبطال أشبه برسائل برقية تعبّر عن مضمون البطولة والتضحية والشهادة، وتضع الشهيد في مرتبة الخالدين... في الوقت الذي يعرف بأسمائهم على نحو ما... ومما صدر له من هذه السلسلة:

1-شهاب غزالة.

2-مصطفى الأطرش.

3-الأخوة من آل علم الدين.

4-سليمان العقباني.

5-صالح القضماني.

6-محمود أبو يحيى.

*- وقد وعد القراء بإصدار كراسات أخرى يحدثهم فيها عن الشهداء والأبطال، مثل:

-ثلاثة أبطال من السويداء (يوسف جربوع –أجود مرشد رضوان –أسد قرضاب).

ذلك هو باحثنا المولود في قرية (المجيمر) من محافظة السويداء عام
(1917م) والذي زاول مهنة التعليم بعد أن حصل على شهادة الدراسة الإعدادية منذ عام (1938م) فكان من الجيل الأول في السويداء معلماً ثم مديراً لبعض مدارسها؛ ومن ثم منشئاً رئيسياً في محافظتها عام (1940م)... ولما عرف باجتهاده وعدلـه في أموره كلها نُقل إلى (العدلية) بالسويداء؛ وليصبح رئيس دائرة حتى أحيل على التقاعد سنة 1967م... ثم انتسب إلى اتحاد الكتاب العرب –جمعية البحوث والدراسات.

لعل إحالته على التقاعد زادته همة وطموحاً ورأى أن السفر إلى البرازيل وفنزويلا يحقق لـه ذلك. وفيهما التقى أدباءهما، وأقام معهما صلات ودية عظيمة؛... ولا سيما أنه حصل على نتاجهم الأدبي... وهذا ما يفسر لنا سبب تخصصه بنشر أدب المهجر الجنوبي.

ويمكن لنا أن نمثل لإصداراته التي أشرنا إليها بالوقوف عند ثلاثة من سلسلة (أبطال منسيون) ومن ثم نشير إلى الملحمة الشعرية التي أنشأها المرحوم الشاعر القاضي الدكتور فريد عقيل في قائد المجاهدين والثوار المرحوم سلطان باشا الأطرش...

ومن بعدُ، يستقر بنا المقام عند اثنين من شعراء المهجر الجنوبي (أمريكا الجنوبية) تمثيلاً لا إحاطة بما قام به الباحث من نشر شعرهما والتقديم له... في إطار تجسيدنا لرؤيته في الحياة... هذه الرؤية التي تحققت لـه في شعراء المهجر الذين تمسكوا بوطنهم حتى النخاع، وبعروبتهم حتى الثمالة... فامتزجت رسالته برسالتهم إلى الأجيال لبناء الحياة الحرة الكريمة.

ومن هنا يمكن أن نتحدث أولاً عن معنى الشهادة في بناء الوطن، ونتكلم ثانياً على إصرار الإنسان على التمسك بقيم الخير، والتعلق بها وبالوطن على شدة المعاناة في أرض غريبة.

أولاً –في الشهادة حياة للوطن والأبناء...
قلنا: إن الباحث عاش حياة الشهداء الأبطال الميامين حين تصدى لنشر ما يتعلق بهم... وجسَّد بقوة رمزَ البطولة والتضحية والفداء مع الشهيد مصطفى الأطرش المولود في قرية (القريا) سنة (1901م)، ومن ثم أبرز صفاته ومبادئه... في حبه لقريته وأصدقائه، وإخلاصه لأرضه، وتواضعه لأبناء جلدته...

فالباحث يعرض علينا صورة من حياة هذا الشهيد البطل الذي كان قدوة حسنة في التضحية والشجاعة... استرخص حياته في سبيل وطنه؛.. فهو من امتطى جواده ملبياً نداء الوطن والواجب، ولم يبال في سبيله أنه ترك وراءه زوجته وولده الوحيد محمداً ولم يزد عمره على ستة أشهر... فقد شارك بكل الإباء والعنفوان بطولة الكفاح مع أخويه سلطان وزيد والمخلصين الشرفاء... وكتب مع بعض رفاقه بدمائهم ملحمة الشهادة في معركة قرية (الكفر) بتاريخ (21 تموز 1925م)....

وإذا كان المؤرخون قد أرخوا لهذه المعركة، وإذا كان الشعراء قد استلهموا عبقها فواحاً في أشعارهم، فإن الباحث نعمان حرب قد أعادها إلى ذاكرتنا حين تناول أحد أبطالها... وهو الذي أثبت لنا ما قاله الشاعر محمد البزم فيها، وفي صفة الشهيد، ومنها: (الشهيد مصطفى الأطرش: ص 13)

يعطي الشهيد فلا والله ما شهدت

عيني كإحسانه في القوم إحسانا

وغاية الجود أن يسقي الثرى دمُه

عند الكفاح ويلقى الله ظمآنا

والحق والسيف من طبْعٍ ومن نسَبٍ

كلاهما يتلقى الخَطْبَ عُريانا

وكذلك رفع الباحث راية المجاهد صالح القضماني المولود في قرية (قنوات) من (جبل العرب) سنة (1905م) والذي مارس مضمون المثل القائل (اطلب الموت تُوهب لك الحياة). فقد آثر الوطن على النفس والأهل؛ فباع قطعة أرض يملكها واشترى بثمنها بندقية، ولبى نداء الثورة السورية الكبرى بقلبه وروحه، فضرب الأمثولة الرائعة في النضال... وسطر بجهاده حرية الوطن بحروف من نور، وظل شاهداً عليها وحتى وافاه الأجل المحتوم سنة (1991م) فانتقل إلى دار الخلد عن عمر يناهز (88) ثمانية وثمانين عاماً... لقد طلب الموت فكتبت له الحياة المديدة.

ولعل من أعظم المعارك التي خاضها مع سلطان باشا الأطرش والشرفاء الأبطال معركة التنك) التي وصفها الشاعر القروي، ووصف قائدها، ومنها (المجاهد صالح القضماني: ص 15)

وثبتَ إلى سنام التنك وثباً

عجيباً علَّم النّسْر الوقوعا

فخّر الجند فوق التنك صرعى

وخَرّ التنك تحتهمُ صريعا

ولما آمن باحثنا بأن الأرض العربية واحدة أينما كانت فقد وجد في الشهيد محمود أبو يحيى مصداق إيمانه، والمثل النبيل للذين آمنوا بالوحدة العربية قولاً وفعلاً... إذ ناضل في بقاع شتى من ديار العروبة... وهو المولود في قرية (شقا) في جبل العرب سنة (1888م)...

وكان الشهيد محمود أبو يحيى قد شارك في الثورة السورية الكبرى، ثم أسهم سنة (1932م) بالحركة الوطنية التي حاربت التّبعية للاستعمار الفرنسي، ثم أظهر محبة عظيمة وصورة مشرقة للشجاعة مع البطل المجاهد (حمد صعب) في لبنان، وانضم إلى ثورة رشيد الكيلاني في العراق؛ أما ثورة فلسطين التي اندلعت سنة (1935م) فقد كان واحداً من أبطالها الميامين؛ ولا سيما حين اشترك مع المجاهد البطل فوزي القاوقجي في حرب الاستعمار البريطاني على أرضها، فسقط شهيداً عليها مروِّياً ثراها بدمه الزاكي سنة (1941م) فاكتسب بذلك لقب (بطل الثورتين)؛ الثورة السورية الكبرى؛ وثورة فلسطين...

ولم يستطع باحثنا أن يتجاوز سيرة هذا الشهيد العظيم، ولم يستطع أن يتجاوز سلطان المجاهدين، وما سطره من مآثر خالدة وعظيمة استلهمها الأدباء والشعراء والمفكرون والمؤرخون... فمضى ينشر الملحمة الشعرية التي أنشدها الدكتور فريد عقيل المولود في يبرود من جبال القلمون سنة (1937م) والمتوفى بها في عقد التسعينات.

يصف فيها بطولات الثورة السورية الكبرى وقائدها سلطان باشا الأطرش...

وبهذا عقد الباحث من جديد راية الكفاح المشترك بالدم والكلمة بين جبل العرب وجبل القلمون... ومما جاء في تلك الملحمة التي كان سلطان باشا الأطرش مصدر الإلهام فيها قول الشاعر: (الثورة أو سلطان الأطرش: ص 31 –49)

وها هو الجبلُ الريانُ يا جبلاً

لم يُبْق يوم الوغى فخراً لمفتخر

من أبصر السيل لما انصبّ من عَرَم

نحو السويداء يبكي سيرة السِّيَر

الله أكبر هذي الشام قد نفرت

والثورة اشتعلت من غضبة الحَبَر

وراية الثورة العَرْباء مشرعةٌ

جاءتك تحدو بأرماح الوغى السُّمُر

ياقائد الثورة العرباء أيُّ يدٍ

روَّت من السين كأس المجد والظفر

ماذا صنعْتَ؟‍ أساطير الوغى هدرتْ

في العالمين ودارت دورة القمر

حامي الحمى؛ قمتَ تُصلي جحفلاً لجباً

بقبضة من بني معروف كالقدر

سلطانُ، أيُّ عزيفٍ أنت قائده؟

أَزْعْزَعُ الريح أم بَكْريةُ المطر؟‍

وأكبر الباحث الكريم وفاء الشاعر فقال: "وقد صدق أخي أمين في قوله في تحيته للقاضي فريد عقيل:

لله درُّكَ ما أبدعت من صور شبّهتها –عفوَ رب الناس –بالسور ومن حق التاريخ علينا أن نخلد مآثر أعلامنا وقادتنا... ومن حقنا أن نخلد قصيدة الشاعر الدكتور فريد عقيل وأن نُضيفها إلى الملاحم الشعرية الحديثة لأنها تبرز صفحات مشرقةً ومراحل مجيدة في تاريخنا المعاصر". (الثورة أو سلطان الأطرش: ص 24)

ثانياً –أدب المهجر أدب الحياة والكفاح:
كما آمن باحثنا برسالته الثقافية الراقية جعل سبيله إليها تعريف الأجيال بالشهداء والمجاهدين، وبالثناء على كل من كرمهم... فكان وفياً لتراثه مخلصاً لكل من أسهم في بناء الحياة وارتقائها.. فرسالة الشرفاء الأحرار درب البطولة والانعتاق من الجهل...

ومن هنا سعى مجدداً ليعيش حياة المفكرين والشعراء بوجهها الإبداعي المشرق.. لهذا يمَّم وجهه نحو شعراء المهجر الشمالي والجنوبي؛ لأنه وجد فيهم صلابة الإرادة؛ ومجابهة الضَّعف، ومحاربة الفقر والعوز... وجد فيهم العزيمة وعدم الإنكسار فظلوا متعلقين بأوطانهم بأفئدتهم، وإن بعدت أجسادهم عنها...

فرسالة باحثنا في الحياة أن يضع بين يدي الأجيال الأمثال الرائعة في الشجاعة والبطولة، والعلم والمعرفة، والثبات وتجاوز الصعاب، والمحن، وهو القائل: "لا بد لي من متابعة دراستي عن بقية هؤلاء الشعراء، وعرض أدبهم وشعرهم وإبراز مواهبهم وأفكارهم لتبقى المصابيحُ المنيرة وهاجةً تضيء الطريق أمام الأجيال، ولتستمر الدفقات العذبة في تفجرها تروي [الجذور] العميقة، وتمد الشجرة الباسقة بالغذاء والحياة. إن البناء الشامخ الذي شيّده المعلمون الأوائل وجعلوا منه منارة للفكر ومدرسة للأدب والشعر، وتفيأ ظلَّه الكثير من رواد العلم والمعرفة في مشارق الأرض ومغاربها لا يزال محافظاً على ألقه وقوته وإشعاعه.

وإذا كانت بعض روائعه قد أوشكت أن تغيب عن سطح الوجود مع غياب صانعيها الذين خلدوها في ضمير التاريخ فإن هذه الروائع قد عادت إلى التألق من جديد لأنها وجدت من يصنعها ويحميها...". (الشاعر شفيق عبد الخالق: ص 10 –11).

هذه هي رسالة باحثنا، إنها رسالة نهوض واستنهاض للتاريخ والحاضر والمستقبل وقد وجد في شعراء المهجر ضالته. فلما كانت أبصارهم متعلقة بالمستقبل وآماله كانت قلوبهم منشدة إلى أوطانهم –وإن اغتربوا عنها –عاشوا همومها وقضاياها؟

وإذا ما طال غيابهم في ديار الغربة بكوا غربتهم؛ وناحوا واشتكوا ولكنهم لم يفقدوا الأمل في العودة.. وثبتوا على ألم المعاناة وقسوة الحصول على لقمة العيش...

ولم يكن من السهل عليهم أن ينسوا أوطانهم التي استيقظت عيونهم على مرابعها وتفتحت أذهانهم على محبتها ومحبة تراثها... لهذا حنوا إليها حنيناً يوقظ المشاعر النائمة من سباتها، ويملأ العيون بالدموع...

ففي المهجر الشمالي توطدت بين العرب المهاجرين إليها أواصر قربى الانتماء؛ فالعروبة غَدت قرابة رحم ودم ونسب، فأنشؤوا دولة أدبية عربية من نيويورك بتاريخ (20 نيسان 1920) سموها (الرابطة القلمية) ورأسها جبران خليل جبران ووضع دستورها ميخائيل نُعيمة....

وفي المهجر الجنوبي، (أمريكا الجنوبية) نشأت (عصبة الأدب العربي) أو ما عرف بـ (عصبة العمل القومي) وكان مركزها في مدينة (سان باولو) كبرى مدن البرازيل.

ومن بعد ألهبت إبداعاتهم الشعرية أفكار العرب في المشرق وعواطفهم، وتلقفوا ما سطروه، وكان باحثنا المحتفى به أحدهم.... وقد عني بعدد غير قليل من أدباء المهجر الجنوبي، ونشر أعمالهم كما أشرنا إليه من قبل...

فمن شعراء المهجر الجنوبي الشاعر اللبناني شفيق عبد الخالق الذي هاجر إلى البرازيل سنة (1951م).... وقد عاش هذا الشاعر هموم الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، وآلمه أن يرى أرضه مدنسة من قبل الاستعمار الغربي.... وآمن بأن الشهادة وحدها صانعة للحرية؛ فحدثنا في إحدى ذكريات وقعة ميسلون عن عظمة الشهيد، وقيمة الشهادة، وبيَّن أن المستعمر الفرنسي لم يستطع أن يغتصب الأرض (إلا على جثث الشهداء، ومما قاله يستحث حمية الأجيال: (الشاعر شفيق عبد الخالق: ص 95)

الأرض عطشى وثغر المجد يبتهل

أين الدماء التي ضحَّى بها البطل؟‍

سلُوا الرمال التي مازال باطنها

يقتات بالراعف الثاني ويشتعل

هي الرقيب الذي يروي بطولته
هل مسه الخوف أم هل راعه الأجل؟‍

لا يبلغ الوطنُ المعبودُ غايته

حتى تموت فدى أَوطانها الرسل

أما الشاعر السور جورج يوسف شدياق المولود بحلب سنة (1948م) فقد هاجر إلى (فينزويلا) سنة (1967م) لإتمام دراسته واستقر في مدينة (بورتو لاكروس)... وظل دائم التطلع على وطنه، فهو يحمله في جوانحه وهجاً مشرقاً، وينشده شوقاً وحنيناً إلى مهد الطفولة ومرابعها... وفي الوقت نفسه يتطلع بشغف إلى تحقيق وحدة الأمة العربية. ومن شعره في ذلك كله قوله: (الشاعر جورج يوسف شدياق: ص 150)

آبَتْ تنوش فؤادي الأشواق

والدمع عاد من الحنين يُراقُ

مالي أرى في الذكريات صبابة

يخشى لظاها الغائب المشتاق

هبّت على النائي الغريب نوافح

كالمسك لم تبخل بها الآفاق
ساءلت عنها، قيل: من حلب أتت


فلينعشِ القلبَ الشذى العَبَّاق

ثم يقول: (153)

كم حاول النسيانُ وَأْدَ عواطفي

فمضى يسوق مطيَّه الإرهاق

غَلَّفتُ قلبي بالعروبة والهوى

مذ غبتُ عنه فهابه الطُّرَّاق

عربية نبضات قلبي يا أخي

فليصمت المتبجّحُ البَوَّاق

قلبي على وتر الحنين معربدٌ

طوراً يحنُّ... وتارةً يشتاق

فرسالة باحثنا رسالة إنسانية سامية ممزوجة بالعروبة الصافية التي وجد عبقها في شعراء المهجر... هؤلاء الشعراء الذين تشبثوا بأوطانهم وتاريخها

وتراثها.. وهو تراث تجذر في نفوسهم وأفكارهم، والتصق بشغاف قلوبهم. وهذا ما عبّر عنه جورج يوسف شدياق في قصيدته الموصوفة "في رحاب المتنبي"؛ ومما خاطبه فيها قوله: "الشاعر جورج يوسف شدياق: ص166":

أنَّى التفتُ تراكَ عيني ماثلاً

تسمو بمجدك عِزَّةٌ وتمرُّدُ

لم يخبُ نجمُكَ مذ عهدتُ طلوعَه

ولَكَمْ توارى في سماءٍ فَرْقَدُ

لك في ذرى الأدب النضيد مكانةٌ

وبناءُ مجد في العلاءِ مُشَيّدُ

لم تخلقُ الأيام مثلك شاعراً

تعنو لعبقره القوافي الشُّرَّد

يا سيدي طعنوا القريض غضاضةً

ليلُ القوافي –مذ غيابك- أسود

عاثوا بأوزان الخليل ولم يعُوا

؛ مذ شطَّ ساحل شعرهم؛ ما أفسدوا

أرأيت كيف تباح حُرمة شعرنا؟!

حَتَّام تسكت عنهم يا أحمد

عفواً؛ إذا أفصحت عن ألم الحشا

هيهات يفصح عن أساه الجلمد

فنتاجات شعراء المهجر وإبداعاتهم ألهبت عواطف الباحث نعمان حرب وجسدت تطلعاته وآماله في وحدة الأمة، وتحررها من التبعية والتخلف، والارتقاء بها مدنيةً وحضارةً.. باعتبارها النبراس الذي يهتدي به الأجيال.. فإذا كان جورج يوسف شدياق، وشفيق عبد الخالق وغيرهما قد تحدثوا عن الشهيد الذي مهر الوطن بدمه وروحه –وما يموت الشريف إلا في ساح الوغى- وتكلموا على الأوطان والحنين إليها على أوتار الكلمات التي تذيب القلوب الجلامد، وتنتقل على جناح نسيم الجوى المخضب بالأماني العذبة.. فإن باحثنا رافق مسيرة حياتهم وتعلّق بأهداب طموحهم إلى المستقبل الآتي، فعاش حياته مرتين؛ مرةً حين قرأ لهم وتمثل عواطفهم وأفكارهم ومرة أخرى حين نشرها؛ فأدى رسالته الكريمة.

ولهذا كله استحق حيازة الجائزة الأدبية المسماة جائزة "جبران خليل جبران الأدبية" سنة "1987م".. ومن ثم استحق أن يلقبه الشاعر شفيق عبد الخالق "فتى الضاد" كما جاء في قصيدة مدحه بها؛ ومنها: "الشاعر شفيق عبد الخالق: ص 226":

يَمِّم رُبى المجد وأنزل واحة القُضُب

واحمل لنعمان شكر الشعر والأدب

واحمل إلى الجبل العالي وثورته

ما يُطرب الروح من أشواق مغترب

واغرف من الفيض آداباً ومعرفة

واشرب مع الفجر نَخْب الصفوة النجب

ثم يقول:

مرحى فتى الضاد لم تُعْقَد مجالسنا

إلا وكنت حديث الأنس والطرب

هلاَّ نوفيك فضلاً أنت باعثه

طيباً، كطيب ثناك العاطر الرطب

فإذا كان الباحث قد احتلَّ من نفوس المهجريين هذه المكانة، كما احتلوا من نفسه؛ فقد قرأ قصائدهم وجال في رحابها، وتنشق نسائمها وهو يقدم لها ولصاحبها مبرزاً صورة ما يراه من التعلق بالوطن والعروبة بأشكال شتى ورؤىً عدة، فاستحقَّ بكل احترام الانضمام إلى كل من شغفه حب الشهداء والمجاهدين، كما غدا وتراً شجياً في قيثارة شعر المهجر.

فقد حمل رسالته في الحياة وصاغها في همسة كل شاعر؛ وفي صمود كل مجاهد، وفي مأثرة كل شهيد..

وإذا كانت كل أمة تفتخر بتراثها ورجاله فإنها كذلك تعتز بأبنائها المبدعين والمفكرين المعاصرين الذين يصنعون مستقبلها بنغم ينطلق من ضمير الوجود، ونور ينبعث من زناد الفكر؛ وعاطفة مشبوبة تنبجس من الروح الأصيلة. ويظل المثقف والمربي، والشاعر والأديب في طليعة من تزهو بهم الأُمم والشعوب لأنهم صنَّاع الحياة؛ وبناة الأجيال.. ورسالتهم أعظم الرسالات قاطبة وأكرمها.

تلك هي رسالة الباحث نعمان حرب، رسالة توق إلى صناعة الحياة الخيّرة إما بالشهادة في سبيل الوطن، وإما بالإخلاص في العمل الدؤوب والطموح إلى بناء الوطن لتكون صورته أحلى وأقوى..

وليس هناك من مراء أن الباحث عُني بمن يعرفهم من المجاهدين والشهداء والأدباء؛ وإن تعلق بالمجاهدين والشهداء من أبناء محافظته؛ فطبق مضمون الحديث الشريف [خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي..] (الجامع الصغير – رقم 4100)..

فلولا هذا الباحث الكريم لما عرفناهم، وما زلنا نطمح إلى معرفة عدد آخر غيرهم.. وكلنا ثقة أن يكون جهده حادياً للأدباء أن يعمقوا ما بدأ به ويستكملوه.. فكلما نهض جزء من الوطن وارتقى في اتجاه ما خطونا به خطوة نحو الأمام..

وعسى أن يكون ما قدمته إضاءة مفيدة عن الباحث ومقدماته وإصداراته.. وإن كنا اجتزأنا بقسم منها، وإني لأرجو أن أكون قد وفيته حقه علينا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق