أزمنة خالدة في حياة بائع النار

الشرقية
عدنان أبو زيد
يبدو لي ان ربط الشاعر بالامكنة ليس سهلا " كما ان محاولة ربط حركة الشاعر في فلك الازمنة ضرب من المحال. واذ حاولت جمع هذه المادة عن الشاعر البياتي، خذلتني مصادري لان الحديث عن البياتي لا يكتمل باتباع طرقي التقليدية في البحث وهي الكتب والمجلات ومواقع الشبكة العنكبوتية واخبار الاصدقاء.ذلك ان جميع مايتوفر عن الشاعر هو حديث الشعر فحسب، والشعر وحده. اما علاقات الشاعر مع الامكنة والاشخاص وتفاصيل حياته اليومية، فهو ضرب من الصعوبة. ولعلنا في هذا المجال ندعو الي توثيقية اكبر لحياة عظمائنا. فالتاريخ يريد من الشعوب ان تدون صفحاتها والا ضاعت بين زحمة اخبار الامم. وفي زعمي أن هذا استقطاباً كي نضع الجمهور مقابل الشعر. و كي يري الجمهور تفاصيل اللحظة المادية التي يجسد فيها المبدع خلجاته.
القاريء الجيّد للنصّ" هو القاريء الذي يعرف اكثر عن الكاتب ومعاناته لان النص ليس حروفا تسقط من السماء، بل حدث مدون يولد من عمق التاريخ.
دكروب.. ذكريات بيروت
يروي محمد دكروب انه في أواسط الخمسينات كان عبدالوهاب البياتي في بيروت، مبتعدا عن العراق.حيث اسس معه في تلك الفترة لصداقة دائمة. وفي بيروت حمل معه البياتي مجد ديوانه الثاني والأشهر 'أباريق مهشمة' حيث كشف فيه عن انتماءه إلي اليسار.كان يسكن في غرفة صغيرة ضيقة، كل ما فيها من 'أثاث' يمكن أن يضعه البياتي في حقيبة ويرحل في أية لحظة يضطر فيها الي الرحيل..
التكرلي.. الشعر والسياسة
اما فؤاد التكرلي فكان ينظر الي شعرية عبد الوهاب البياتي علي انها جاءت بسبب ركوبه موجة اليسار السياسي. يقول التكرلي:كنت أنظر اليهم بود ولم التق ببدر شاكر السياب إلا مرات قليلة، كذلك نازك الملائكة" وكان البياتي صديق طفولة. ولكن كنت وما زلت مؤمناً بأن موجة الشعر الحر في العراق محض حركة مفتعلة لم تأت بجديد، وكل ما أحرزته من تمجيد في العالم العربي سببه الدعاية فقط وطريقتهم في الإعلان عن أنفسهم.
موجات الحداثة في الشعر سبقتهم اليها مدارس في مصر ولبنان وهم تلقفوها وحاولوا إعادة إنتاجها علي نحو معاصر. ونجاح السياب والبياتي سببه ركوبهم موجات السياسة. ويضيف: أنا لا أقلل من شاعريتهم، ولكنهم ركبوا الموجة اليسارية، وبعد اختفاء الملائكة وموت السياب خلا الجو للبياتي فأصبح شاعر اليسار.
كان عبدالوهاب البياتي صديقي وهو من منطقتي باب الشيخ - الصدرية، درسنا في مدرسة واحدة وتخرجنا من الثانوية سوية، هو ذهب الي دار المعلمين العالية وأنا الي كلية الحقوق. وعرّفته علي نهاد التكرلي وعبدالملك نوري لنكون رباعياً معروفاً في المجتمع الثقافي إبان الخمسينيات.
كنا نجتمع كل يوم خميس علي مدي أربع سنوات. كان البياتي صامتاً نادراً ما يشارك في نقاشاتنا، وفي مرة من المرات أحضر مسودة ديوانه (أباريق مهشمة) فأثار إعجابنا، وطلب من نهاد أن يكتب له مقدمة، فكتب المقدمة التي اشتهرت (عبدالوهاب البياتي: المبشر بالشعر الحديث).
حمل البياتي الديوان والمقدمة الي مجلة "الثقافة الجديدة" التي يصدرها الشيوعيون، فقالوا له هذه المقدمة ضد وجهة نظرنا في الشعر، فوافق علي نشر الديوان بدونها، ثم أرسل المقدمة الي مجلة "الأديب" البيروتية لتخرج علي هيئة بيان تنظيري للشعر الحر، لأن المجلة احتفت بها ووضعتها ما يشبه الكلمة الإفتتاحية.
شربل بعيني..لقاء في الباص
ويقول شربل بعيني انه التقي البياتي في 1987، في بغداد. ويصف اللقاء بالقول: كنت أجلس وحيداً في الباص أمام فندق الشيراتون، أنتظر إقلاعه للذهاب إلي قاعة الرشيد الكبري لألقي قصيدتي "أرض العراق.. أتيتك"، وفجأة صعد إلي رجل خمسيني يكلل الشيب مفرقيه، وجلس بجانبي وهو يبتسم لي، فقلت له بعد أن أذهلني وقاره: أللـه بالخير.. شربل بعيني من أستراليا.
ـ يا مرحبا.. عبد الوهّاب البيّاتي من العراق.
ـ أنت عبد الوهّاب البيّاتي.. أللـه كـم أنا مشتاق لرؤيتك
ويقول بعيني انه قال للبياتي: الدكتورة سمر العطّار تدرس أدبك في جامعة سيدني. ثم ما لبث ان طلب بعيني من البياتي ان يقرا مجموعته الشعرية باللهجة اللبنانية.
وفي الرابع عشر من شهر نيسان 1988، أرسل البيّاتي هذه الرسالة لشربل:
"الأخ العزيز الشاعر الأستاذ شربل بعيني
تحيّاتي ومحبتي..
وصلتني رسالتك المؤرخة 16/3/1988، قبل أيام قليلة، ومعها مجموعة من مؤلفاتك الشعريّة، وبعض ما كتب عنك، وقصاصة من جريدة صدي لبنان الصادرة في سيدني.
شكراً علي مشاعرك الطيّبة وهداياك التي تؤكّد نشاطك الشعري العميم في ديار الغربة، ومحاولاتك التغلّب علي الغربة بالكتابة التي هي نعمة نادرة.
توقّفت كثيراً عند رباعيّتك الرائعة:
سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بوابي بوجّ الناس
بحاكي كراسي البيت والحيطان
وبصير إتخانق أنا والكاس
سعيد الزبيدي.. اللقاء الاخيرة في عمّان
ويروي الدكتور سعيد جاسم الزبيدي رئيس قسم اللغة العربية كلية التربية بنزوي/ سلطنة عمان ايام البياتي الاخيرة في عمان، وكيف ان البياتي قرر مغادرة عمان الي دمشق.ويقول انه عرض عليه الامر و الناقد الدكتور علي عباس علوان وكيف انه حاول ان يثنيه عن الامر لكن البياتي كان قد اتخذ قراره حيث قال: أنا ذاهب إلي دمشق لأموت و أريد أن أدفن جوار قبر ابن عربي.ويقول الدكتور الزبيدي: ان الموت كثر في حديث الشاعر المبدع في ايامه الاخيرة. ثم مالبثنا ان سمعنا خبر وفاته.رشدي العامل.. المدرّس والطالبويقول الشاعر رشدي العامل ان علاقته توطدت بالبياتي في 1956.. وعن ذكري اللقاء الاول يروي: التقيت البياتي، لاول مرة، عندما كنت طالباً في متوسطة الرمادي حين قدمه مدير الثانوية مدرساً للغة العربية.
ومازلت اتذكر عبر هذه السنوات الطوال انه تناول الطباشير وكتب علي اللوحة ابيات الشعر التالية:اجمل ايام الهوي افلتتمنا، واخشي انها لن تعودْكانت سراباً عابراً وانتهيكأنها حلم عزيز الوجودفي سنة العالم من بدئهان يسلم الشوك وتفني الورودجنة اهل الحب، في سحرها،كانت وعوداً، وستبقي وعود.لا اتذكر اسم الشاعر المهجري، غير اني اتذكر ان البياتي طلب الينا ان نتحدث عن هذه الابيات وما تثيره فينا من مشاعر وصور. وعندما جاء دوري للاجابة بدا طبيعياً ان اجابتي كانت احسن ما سمعه مدرسنا الجديد، لقد كنت، يومها متميزاً في دروس اللغة العربية وبالنصوص الادبية والانشاء بوجه خاص.
حسونة المصباحي.. ذكريات مدريد
اما حسونة المصباحي
فيروي لقاءه الاول بعبد الوهاب البياتي لاول مرة في مدريد شتاء عام 1982، وكان المصباحي قد جاء إلي العاصمة الاسبانية قبل ذلك بعام لغرض لقائه والتحاور معه، غير أن ابنته الكبري التي ماتت بالسكتة القلبية نهاية عام 1990، أعلمتني أنه سافر إلي المكسيك، وأنه لن يعود منها إلا بعد ثلاثة أسابيع.
يقول المصباحي: تركت الأسئلة عندها، وسافرت إلي المغرب، وعند عودتي إلي تونس بعد ذلك بحوالي شهر، فتحت مجلة "الدستور" بالصدفة، وإذا بصفحاتها الثقافية تتضمن أجوبة عبد الوهاب البياتي علي الأسئلة المكتوبة التي تركتها له عند ابنته الكبري. وعليّ أن أقول أن لقائي الأول بعبد الوهاب البياتي كان الأساس المتين لتلك العلاقة الحميمية التي ربطتني به علي مدي العقدين الأخيرين من القرن العشرين، والتي ظلت قائمة الذات حتي وفاته..
ويضيف المصباحي: عبد الوهاب البياتي شخص صعب المراس، ورجل نادر يصعب علي مسطّحي الذهن وفقراء الخيال سبر أغوار شخصيته العذبة، وإدراك أبعاد تفكيره، والتقاط المعاني الخفية لدعاباته السوداء، وتهكمه اللاذع الذي لا يكاد يسلم منه أحد بما في ذلك أصدقاؤه المقربون. فيه شيء من الاعتداد بالنفس عند المتنبي، ومن التحدي عند امرؤ القيس، ومن فنّ الهجاء عند الحطيئة ومن الاقبال النهم علي ملذات الدنيا عند أبي نواس، ومن المرارة والتشاؤم عند المعري.
وللبياتي شخصية جذابة تشعّ فتنتها حتي وهو صامت. وبرأيي لا يعود تكاثر الأعداء وتألبهم عليه فقط إلي صراحته الجارحة، وإلي سلاطة لسانه الذي يصيب خصومه مثل نبل قاتل، وإنما أيضا لأنه شاعر أصيل. من كلماته البسيطة يشع نور الحب والحرية والانسانية والصدق، في حين لا يعدو أن يكون الشعر عند المناوئين له غير حذلقة مملة أو افتعال مقرف، ولعب سخيف بالكلمات.ولأنه عاش طويلا منتقلا بين المنافي شرقا وغربا فإن البياتي خزّان لا ينضب من الذكريات عن الناس وعن المدن وعن الثقافات.
علي بساط كلماته العذبة الحارة كالجمر، وعلي أمواج صوته المتبل بالكحول والسجائر. وفي مدريد، لم يكن عبد الوهاب البياتي غائبا عن الحياة الثقافية والفنية فيها، وهي تعيش سنوات السعادة الأولي بعد زوال النظام الفرانكي. وبرفقته حضرت العديد من الفعاليات الثقافية والفنية، وكان علي اتصال دائم بالمستشرق الاسباني المعروف بيدرو مونتابث الذي نقل إلي اللغة الاسبانية العديد من قصائده صدرت في كتب جميلة وأنيقة كان البياتي يقف أمامها طويلا وهو سعيد مثل طفل عندما يراها معروضة علي واجهات المكتبات.
ومرة رافقته إلي حفل تكريم الشاعر الاسباني الكبير رافئيل البرتي الذي عاش مثله متنقلا بين المنافي ولم يعد إلي بلاده الا بعد انهيار نظام الجنرال فرانكو. وكان رافئيل البرتي يبدو في حفل التكريم الذي أقيم احتفاء به بعد نيله جائزة "سرفانتس" المرموقة محافظا علي كامل حيويته بالرغم من أنه كان قد تجاوز سن الثمانين. وكان يعب النبيذ الأحمر محاطا بصبايا جميلات. وأمام ذلك المشهد البديع، انحني عليّ البياتي، وهمس لي قائلا: "أظن أني سأكون مثله عندما أبلغ سن الثمانين".
عدنان ابو زيد: كاتب عراقي مقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق