ميشال شعنين، الوداع ايها الصديق الغالي

 


خسرت بلدتي مجدليا إبناً عزيزاً محباً وكريماً، اسمه ميشال الياس شعنين، وخسرت أنا صديق طفولتي وشبابي.

ولتدركوا عمق الصداقة والأخوة التي جمعتني به، سأكشف سراً، أقسمنا أن يموت معنا، فلقد أسسنا جمعية سرية أسميناها "جمعية مكافحة الإهمال"، ضمت العديد من شباب القرية، وقامت بأعمال كثيرة أثناء الليل، مثل تنظيف الشوارع، وجمع القمامة وغيرها.

وكان أول عمل قامت به، هو إضاءة سطح الكنيسة بشكل جيد، وكان ميشال، رحمه الله، الكهربجي الشاطر.

وإن أنسى لا أنسى يوم قررت الجمعية تنظيف ساحة دير مار الياس قبل عيده بيوم واحد، فذهبنا أنا وأخي جوزاف، وميشال شعنين، وميشال عيسى، وكلارك بعيني الى الدير وبدأنا بعملية التنظيف وتحضيرها لاستقبال المؤمنين، وبما أن الأعشاب اليابسة تغطي الساحة قررت إشعالها، ويا ليتني لم أقرر، إذ هبت رياح قوية وحملت النيران الى حقول الزيتون القريبة، وبدأت بالتهام الأغصان، فما كان منا إلا أن صحنا بصوت واحد: يا مار الياس جئنا لتنظيف ساحتك من الأعشاب والأوساخ، وليس لحرق حقول الزيتون، ساعدنا، نرجوك، فإذا بالرياح تتلاشى وبالنيران تنطفىء، فشكرنا الله وقبلنا حيطان الدير وأكملنا العمل.

وعندما أحب ميشال رفيقة عمره ديانا بعيني وتزوج طلب من أخي جوزاف أن يكون إشبينه، وكلنا نعلم ما لهذا الاختيار من قيمة عائلية كبرى.

وأذكر يوم اشترى أخي جورج آلة تسجيل، وطلب مني أن أكتب مسرحية، يقوم ببطولتها هو وميشال شعنين ومحسوبكم طبعاً.

وكان أخي كلما انتهينا من تسجيل مسرحية، يطلب مني واحدة جديدة، إلى أن  كتبت مسرحية عن الهنود الحمر، وكان ميشال يقوم بدور زعيم الهنود، وعليه أن يصرخ بأعلى صوته: "هجوم"، وما أن انتهى حتى هجمت علينا أفواج من النحل وراحت تلسعنا ونحن نهرب منها كالمجانين.

بعدها، توقفنا عن التسجيل والتمثيل، إلى أن غادر أخي جورج القرية متجهاً نحو أستراليا، وما هي إلا سنوات قليلة حتى لحقت به.

ورحنا، أنا وميشال، نتبادل الرسائل الفكاهية، بشكل مستمر، ولأسباب عديدة لم أتمكن إلا من حفظ رسالة شعرية واحدة، أرسلتها له عام 1969، ونشرتها في ديوان "قصائد مسلية"، سأطلعكم عليها:

ـ1ـ

يا مِيشُو كيف حْوالَكْ؟

مِشْتَقْلَكْ مِنْ خَلف الْبَحرْ

وْمِشتاق لْصَوت رْجالَكْ

يا زَعيم هْنُود الْحُمرْ

ـ2ـ

كيفْ بْنَيَّات الضَّيْعَه

هَـ الْـ أَحْلَى مْن نْجُوم الصّبْح

ضَلُّوا انْبِسْطُوا.. وِالْبَيْعَه

لا تْبِيعُوها إِلاَّ بْربْح

ـ3ـ

خَبِّرْني عَنْ يُوسِفْ جِرْسْ

وْعن الْجَوْقَه الْمَفْرُوطَه

بْوَقت الْحَشْرَحَه تَرْكُوا الْعِرسْ

وْراحُوا أكلُوا مَخْلُوطَه!

ـ4ـ

زْعِلتْ.. وْما بْتَعْرِف قِدَّيْشْ

لِمِّنْ يِبْسِتْ تِينِتْنا

لازِمْ نِمْشي عَ البِقْبَيشْ

حَتَّى نِنْسَى مْصِيبِتْنا

ـ5ـ

وْخَيَّكْ جُوجُو وِفْرَنْسِيسْ

مْأَكَّدْ هَلَّقْ صَارُوا شْبابْ

قِلِّي الدِّغْري يا تلْبيسْ

مِشْتَقْلي يَمَّا كِذَابْ؟

ـ6ـ

وإِمَّك فَدْوى وْبُو يوسِفْ

كِيف حْوالُنْ يا خَيِّي

بَعْدُو بَيَّكْ ما بْيَعْرِفْ

إِنُّو مَرْتُو بْعَيْنِيِّه؟!

**

رحمك الله يا صديقي الغالي، وأسكنك الفردوس الإلهي، وأعطى جميع أفراد عائلتك الصبر والسلوان، ولهم مني أصدق التعازي.

شربل بعيني

ألف شكر يا سايد لأنك سرقتني من حواسي، وأجبرتني على الكتابة/ شربل بعيني


 بالصدفة، قرأت قصيدة "إبن بحويتا" صديقي الشاعر سايد مخايل "دبلت عَ باب  قلوبنا  الحبقه"، فاستوقفتني فيها آلام الشاعر، خاصة عندما يقول:

لما الحبيب يروح شو بيبقى؟ 

الاَّ حبر أَسوَد  على الورقه 

بيصير ينزف ذكريات عتاق 

ويرسم قلب مدبوح  بالحرقه 

هذا القلب المذبوح بالحرقة، هو قلبي، وقلب كل انسان مهاجر ترك وطنه الحبيب، وغاص في لجج الغربة، وكلما حاول الخلاص، بلعته الأمواج أكثر فأكثر.

إذن، فالحبيب هنا، جاء بالمطلق، إما أن يكون إنساناً، وإما أن يكون وطناً، والاثنان تجمعهما مفردة واحدة، ألا وهي الحب. فيأتي عندئذ السؤال المؤلم: ماذا سيبقى إن غادر الحبيب، فيأتي الجواب من سايد:

ومن بعد منو بتدبل الأشواق  

وبعد أن تذبل الأشواق تنتهي البشرية لا محالة، أو قد يغض الطرف عن كل إنسان يمر بقربه:

 وكل اللِّي بعدو  بيمرقو مرقه 

ما هذه "المرقة" المحشوة باليأس، الملآنة بالدموع، التي تردد عبارة شمشوم الجبار: علي وعلى أعدائي يا رب.

ولكي يداوي نفسه بالتي كانت هي الداء، على حد قول احد الشعراء، نراه يقول:

ولْ كنت تبقى لطلتو  مشتاق 

وتسرق من خدودو العطر سرقه  

بتتذكرو  بسكرة ليالي غماق 

لمِّن  يجي تبقى الدني عجقا 

وأية "عجقة"، سنسمع الزغاريد، وقرع الطبول، والدبكة اللبنانية، ولكن:

عَا غيبتو صار القلب  منداق 

مش عم يصدق وقعت الفرقه 

ويبس الورد  والعطر بالاوراق  

ودبلت ع باب  قلوبنا  الحبقه..

قصيدة مسبوكة جيداً، تشعر مع الشاعر ما أرادك أن تشعر به، شئت أم أبيت،  ويسرقك من حواسك ليزرع حواسه فيك، وكأنه يقول لنا: الشعر الجميل ليس ملكي بل ملككم أنتم.


ألف شكر يا سايد لأنك سرقتني من حواسي، وأجبرتني على الكتابة.

شربل بعيني