يا مصر.. اسمعي/ فاطمة ناعوت

خِلسةَ المُختلِس

[أن تصادقَ شاعرًا بحجم "شَربل بَعيني"؛ فأنتَ على مَحَكّ الخطر. إنْ وددتَ الاقترابَ من عالمِه، عليكَ أن تتسلّح بِطاقةٍ روحية هائلة، وسُيوفٍ لُغويةٍ ماضية، وقدراتٍ خيالية مُحلّقة، وقلبٍ شاسع يحملُ البشريةَ والتواريخَ والتآريخَ وذواكرَ الأجداد وحدوسَ الأحفاد وإخفاقاتِ الحبيباتِ في سُقيا زهور الأرحام وإخفاقَ العشّاق في تحمّل طعنات الهوى، والهوى والتبتّلَ واليأسَ والإشراقَ والطفولةَ وكهولةَ الألف عام.]

يا مصرُ.... اسمعي 

الشعراءُ يتغنّون بالحبيباتِ في إشراقهنّ وزَهوهنّ وجمالهنّ. لكن الحسناواتِ وحدَهن من بين الحبيبات هن اللواتي يتغنى بهن الشعراءُ في إشراقهن وفي ذبولهن. في صَحوهن وفي رُقادهن. في عُنفوانهن وفي مرضهن. وإلا ما قال قيسُ بن الملوح: يقولون ليلى بالعراق مريضة/ فيا ليتني كنتُ الطبيبَ الُمداويا.”
ليلى العامرية الجميلة، سوداءُ الجدائل، نجلاءُ العينين، مليحةُ القوام، لو لم تكن فائقةَ الحسن وضّاءةَ البهاء ما تغنّى عاشقُها بحُسنِها حتى في مرضِها وذبولها.
ومَن من بين البلدان تشبه "ليلى العامرية" في حُسنها بين النساء؟ إنها مصرُ. التي أحبَّها كلُّ مثقفي العالم، وقدّروها حقَّ قدرها، وعرفوا أنها هِبةُ النيل، كما قال هيرودوت، وأنها حاضنةُ الحضارات حاملةُ مِشعل التنوير للبشرية في فجر الضمير الإنساني وقت غبش التاريخ. أحبَّها الشعراءُ في مجدِها، وفي كبوتِها لم يُعيّروها، بل قالوا إنها استراحةُ المحارب التي بعدها تنهضُ وتثبُ من رقادها لتتأهبَ من جديد لرحلة التنوير والحضارة. 
هنا شاعرٌ من أرض لبنان الساحرة. بلد الثقافة وحاضنةُ الفنون الراقية. بلد شجرة الأَرز الخضراء التي قيل إن اسمها اِشتُقّ من السريانية: "لب" و"أنان"، بمعنى "قلبُ الله"، حين ظنّ الأقدمون أن جبالها كانت موطنًا للآلهة القدامى. وقيل إنها من كلمة "لُبني" أي شجرة الطِيب والبخور طيّب الرائحة. وقيل إنها من الكلمة السامية "لبن" بمعنى "أبيض" لنصاعة الثلوج التي تكلّلُ هاماتِ جبالها. 
شاعرُنا اللبناني ترك لبنان الجميلة لأسباب سياسية وهاجر إلى سيدني الاسترالية ليؤسس حصنًا ثقافيًّا يليق بمهاجر مثقف أسماه "الغُربة"، وراح يعلّم أجيالا إثر أجيال من أبناء الجاليات العربية، فنونَ اللغة العربية وأسرارَ آدابها وأشعارها، فأصبح أبًا لآلاف من البنات والبنين غدوا الآن زهورًا مشرقة تزيّن فضاء سيدني، وله مئات الكتب رفيعة الطراز. حينما كنتُ في سيدني في نوڤمبر ٢٠١٤ لاستلام جائزة جبران العالمية التي توّجت هامتي بالفرح والفخر، فاجأنا شاعرُنا اللبناني الكبير "شَربل بعيني" بقصيدة كتبها في حبّ مصر، تحيةً لي، ابنة مصر التي غدت تحمل لقب جبران بوثيقة بُنوةٍ رسمية، ومن قبلي، تحيةً للحسناء مصر التي أحبّها كما أحبها كلُّ مثقف حقيقي مفطور على التحضر. لكن المفاجأة أنه أهدى القصيدة لصوت مطرب جبلي من أرض العراق الحزين، التي الشمس أجملُ فيها من سواها لأنها تحتضن العراق، كما علّمنا بدر شاكر السياب.فأشرقتِ الكلماتُ اللبنانية على الحنجرة العراقية التي لا تشبه الحناجر. صديقُنا العراقي ذو الحنجرة المقدودة من حجر الفلاسفة هو المطرب العذب "إسماعيل فاضل"، الذي أيضًا ترك وطنه العراق الكريم ليهاجر إلى سيدني الأسترالية، يحفظ عن ظهر قلب اثنتي عشر ألف قصيدة من التراث العربي القديم، تجويدًا ونظمًا وفنًّا وشدوًا. لحنّ القصيدة وغنّاها وسمعناها، فتشبّثت أكفُّنا بالمقاعد لكيلا تطيرُ أجسادُنا نشوةً؛ فنبرحُ الأرضَ ونحلّق على مقربة من الله في عليائه. 
تقول القصيدةُ: 
يا مصرُ أنتِ الأُمُّ.. يا أُمُّّ اسْمَعي
منْ كثْرَة الأشواق ضاقتْ أضلـُعي
ما كلُّ هذا النيلِ نهرٌ واحدٌ
فلقد وهبتُُ النيلَ مَجْرى أدْمُعي
لو باحتِ الأهْرامُ بالحبِّ النقيْ
لعَلِمْتِ أنَّ القلبَ لمْ يرحلَْ معي
إبنُ المَهاجرِ غارقٌ في حزنِه
منذُ احتضنتُ الأرضَ غابَ توجُّعي
شَعَّتْ على ثغـْر الأحبّةِ بَسْمَةٌ
خِلْتُ النجومَ تـساقطتْ بتـَسَرُّعِ
يا أمَّ دُنيا.. هل صحيحٌ ما أرى؟
هل تسمعُ البلدانُ صوتَ تضرّعي؟
مُدّي اليدينِ إلى الحبيبِ ترفـُّقاً
من ليسَ يأتي المجدَ.. ليْسَ بمُبْدعِ
ها قد سكبْتُ الحبَّ عِطْرَ قصيدةٍ
فتنعّمي بالحُبِّ، ثمَّ تدلّعي..
كوني كما أنتِ احْتِضانَ أُمومَةٍ
مَنْ يجمعُ الأبناءَ.. إن لمْ تجمَعي؟
أنصتوا إلى الصوت العبقري يشدو بالكلمات العبقرية على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=SQWYfad3Fuo&feature=youtu.be
ثم ترقّبوه قريبًا على خشبة المسرح الكبير بدولة الأوبرا المصرية، حيث أنصتتْ إليه جميلةُ "الفلوت"، ومديرةُ دار الأوبرا، د. "إيناس عبد الدايم"، وراقَ لها عذوبةُ الصوت، فقررتْ أن تقتنصه ليشدو لجمهور مصر الحبيبة. شكرًا لكل من أحبَّ مصرَ، لأنها الجميلةُ التي تستحقُّ الحبَّ.
***
* من مقال: "حذارِ أن تصادق شَربل بعيني" |مجلة "٧ أيام" |فاطمة ناعوت | ٣٠ ديسمبر 2014.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق