يداعبني أمل لا اراه بعيدًا، وأنا أعدّ كتاب "الأب يوسف جزراوي وهؤلاء" بأنْ يرى هذا الكتاب النور في المستقبل القريب إنْ قيض لي الله. ولقد اعتاد القرّاء على موضوعية الجزراوي في الكتابة، لهذا سيلقاني القارئ الكريم اشرح إنطباعاتي عن شخصيات ووجوه عرفتها عن قرب في شتى المجالات، بقدر ما أوتيت من معرفة وما أتيح لي من متابعة، وسيلحظ القارئ النبيه أيضًا عبرَ صفحات الكتاب المُشار إليه إعلاه إنني امتلك من المرونة والإنصاف ما يتيح لي الكتابة عن الأشخاص والأحداث والمواقف، في إطارٍ من الموضوعية والتجرد والحياد الفكري والعاطفي .
وكعادتي لم أجز لنفسي، تدوين اسرار حياتية للذين عرفتهم وتقربت منهم، أو احكامٍ عن شخصيات وسلوكيات اصحابها يتحكم فيها الهوى أو المزاج المُتقلب أو النزعات الشخصية. تجنبت الأنحياز لاحد وابتعدت عن الآراء الظالمة والتحليلات الناقصة، نائيًا بنفسي عن استخدام لغة هابطة أو معقدة تدلّ على نقص المعرفة وغياب الرؤية، وسطحية الفكر وسذاجة الكلمة وقلة الخبرة.
أكتب اليوم عن شخصية قريبة إلى القلب محببة إلى النفس محترمة من العقل. جمعتني به علاقة صداقة طيبة تغلفها علاقة التلميذ باستاذه والأبن بابيه بل قلّ علاقة الكاهن بالراهب الحكيم،لأن الرجل كان دائمًا مثارًا للإعجاب والتقدير. كما إنني أكتب في هذه الصفحات عن نموذج لبناني ربّما اختلف بعض النقاد حول آرائه، ولكن الجميع اتفقوا على قيمته الفكرية وقامته الأدبية، فضلاً عن روحه المرحة ونفسه الصافية الوفية واخلاقه العالية، الذي تسامى عن الصغائر فلم يلهث وراء الجوائز ولم يتكالب على الأضواء ولم يضع العصا في طرقات الآخرين بل كان سلمًا يرتقون من خلاله للمجد. إذ ليس المهم أن تملك الموهبة وحدها، ولكن أن تُضيف إليها الشخصية الرصينة والجاذبية الإنسانية والخلُق الرفيع، فهذه كلّها تُعطي للكاتب ولكتاباته تألقًا وتفردًا، وهنا تكمن قيمة الأديب، حين يقرن الكلمات بالسلوكيات.
نموذجنا اليوم أسمه شربل بعيني الذي ارى فيه عصرًا كاملاً يسير على قدمين، وفكرًا متقدًا لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولا ندوب الأحداث. ولقد لفت نظري في أدبه، نقده وشخصه، هو امساكه لميزان الكلمة بحيادية وموضوعية قلّ نظيرهما في زماننا هذا، فضلاً عن أدبه الجم ونزعته الصوفية الواضحة وجاذبيته الإنسانية. فهو رغم كلّ هذا لا يزهو بما يملك من قامة أدبية، بل يزهو بتقربه من الله الذي قاده لينصف الذين جعلوا من اعماقهم فرنًا للكلمة، بعد أن غدت أفكارهم او كلماتهم خبزًا للجميع.
ولا تزال لصيقة بذاكرتي تلك الكلمة التي أشاد فيها الأديب العربي الكبير شربل بعيني بوفاء كاتب هذه السطور لأساتذته، يوم قال في أمسية إطلاق كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم" بتاريخ 12/11/2011:" الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".، فاليوم أودّ أن اسجل واخصص في هذه الصفحات قليلاً من الكثير الذي عرفته عن أستاذي شربل بعيني، عسى أنْ يفي الجزراوي الأديب الصغير المغمور حق أستاذه الكبير وأبيه الروحي.
كنت اسمع عنه وأقرأ له مثل عامة الناس، إلى أن بادرني صديق مشترك في ايار 2011 وهو الصحافي المعروف جوزاف بو ملحم ـ أبو أمين- برغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا وإجراء مقابلة تلفزيونية في مجلته (الغربة) الغرّاء، لا سيّما بعد مطالعته لكتابي الموسوم (خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له: يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أسمع عن الشاعر اللبناني (رسّام الكلمات) شربل بعيني الذي تمكن من رسم أجمل الصور الشعرية والإنسانية بواسطة كتاباته العميقة المُعبرة عن عمقه ونضجه الإنساني. شربل الذي أمتدحه الشاعران نزار قباني وعبد الوهاب البياتي رحمهما الله. وللتاريخ أقول فلكلّ ساقطة لاقطة: لقد تأثر شربل بعيني بابيه الروحي وملهمه الأدبي نزار قباني، سيّما بعد أن التقاه في بيروت عام 1968 واهداه باكورته الشعرية ديوان "مراهقة"، وقد نصحه شاعر العرب الأكبر القباني بالإبتعاد عن العامية والكتابة بالفصحى. وقد لا أكون واهمًا إن قلت: إنَّ شربل بعيني استمد من الشخصية العراقية جزءًا كبيرًا من الذكاء الأدبي والقدرة على تصوير المواقف الشعرية من خلال خبرته في المراسلة مع الشعراء الأب يوسف سعيد، عبد الوهاب البياتي، نزار حنّا الديراني. ولا غرابة في الأمر فعلى مرّ التاريخ شهدنا كيف عانقت النخلة العراقية الباسقة الأرز اللبناني الشامخ.
ولا زلت أتذكر يوم رأيته للمرّة الأولى بجسده الضخم وصوته الجهوري حين نهض من مقعده وانتصب قائلا: "يا هلا بـالأبونا المفكر"؛ حيث التقينا معًا للمرّة الأولى في غذاء محبة وتعارف بأحد مطاعم مدينة ميريلاندز بسيدني رفقة الشيخ د. مصطفى راشد والصحافيّ جوزيف بو ملحم الذي كنا في ضيافته المعهودة، فقلتُ في نفسي يا محاسن الصدف! وأخيرًا التقيت أنا البغدادي الهوى والمولد بالشاعر اللبناني الذي كرمه بلدي العراق حين صدح صوته وتغنى ببغداد في مهرجان المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي مُنح جائزة جبران خليل جبران العالمية.
وجدت نفسي أمام شاعر لا يشق له غبار، بل قلّ أمام صرح أدبي عملاق! أملتُ سمعي إلى كلامه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا، إنقضت ساعة واثنتان، فالإستماع إليه شيّق ومُفيد، بحيث يُنسيك وجبة الطعام التي أمامك؛ كلامه غذاء للفكر، حكمته دواء للذات، لبق الحديث، واسع الثقافة، محفز للفكر. شخصيته مرحة قادرة على توليد النكتة، محبة للدعابة، بحيث كان يبث النكات بين الحين والآخر اضفت على الجلسة جمالاً ورونقًا. لقائي الأول به جعلني أنسى دروس الموسيقى والتزاماتي الكنسية والحياتية!.
في اليوم ذاته لبيت دعوة الرجل لزيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلامية)، وما أن وطأت قدمي أرض المؤسسة، لتطلّ عليَّ في الحال أوسمة وجوائز وميداليات ادبية وهدايا لا تحصى من شخصيات أدبية وسياسية ومؤسسات ثقافية عديدة، ناهيك عن ما يزيد عن 60 كتابًا حصيلة 45 عامًا في رحلة الأدب الممتعة والشاقة. وليكن هذا سرٌّ بيني وبينكم : لَكَم هو عظيم ومفيد أنْ يلتقي المرء باناس تجمعه معهم شراكة الفكر والإبداع، ينمو خلالهم إنسانيًا وروحيًا وأدبيًا. وعندما برِحنا مكتبه نظر كلّ منا إلى الآخر وقلت لهم: إنه قيمة وقامة، إذ ما رأيت في حياتي قدرة على موضوعية السرد مثل تلك التي تمتع بها هذا الرجل، فهو يرد الأمور إلى أصولها ويتعقب الظواهر إلى أسبابها.
ولعلَّ أهم الامور التي ينفرد بها عن الاخرين هو أنه يصغي بتمعنٍ ويستوعب الموضوع المطروح عليه ويرتب أفكاره قبل أن يتفوه بكلمةٍ، ويمتلك ناصية التأثير في الآخرين من خلال شخصية مرحة في غير أوقات الجد، شديدة الجدية أثناءه. وهو متحدّث لطيف المعشر؛ الجلوس إليه متعة، والحديث معه فائدة، والاقتراب منه هو اعتراف بمكانته وتأكيد لقيمته وحفاوة بعطائه المتجدد وتألقه المتواصل.
لقد لفت نظري أنه منهك الصحة، راحته تبدو في وحدته. تبدو على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره المنكوش دلالات العبقرية التي لا تخلو من مسحة كبرياء شخصي، إلاّ أنه قريب من البسطاء والعامة، وله قفشات ونوادر يعرفها أصدقاؤه المقربون. ورغم اعتزازه الشديد بكرامته وقيمة قامته فضلاً عمّا حل به من أهوال وازمات حياتية وأدبية، فإنه يبدو سعيدًا مرحًا قريبًا من القلوب في المناسبات الاجتماعية المختلفة والأحاديث الأدبية الخاصة التي يُقلّ في الحضور إليها. لقد وجدت استاذنا الجليل يوم زاملته في مهرجان العراقية وأمسية تأبين الشاعر كاظم اسماعيل كاطع وحفل تأبين صباح وسعيد عقل يجمع بين رقي الشخصية وسمو النفس وعلو كعب موهبته على الآخرين. وتميزه بحضوره الإنساني الطاغي وشخصيته الخلاّقة وقدرته على اختراق القلوب والعقول في وقت واحد.
ورغم أنني لمست في الرجل غصة دفينة وحزنًا خفيًا سيّما عندما يُقلّب سجل الذكريات ويفتح صندوق الذاكرة، لكنه لم يكن يومًا من أيام معرفتي به من ناشري مناخ الأحباط واليأس، بل على العكس تمامًا. ولقد تميز الرجل من بين أقرانه، بالصدق والاتزان والطيبة على نحوٍ اكتسب به احترام كلّ من حوله. وإن أنسى لا أنسى تلك الأمسية الأدبية المُصغرة التي جمعنني به في حديقة منزله العامر بمناسبة ذكرى ميلاده الحادي والستين بصحبة الصديقين الكابتن سعدي توما والاستاذ موفق ساوا، بعد تركي كنيسة مار توما التي كنت أخدم فيها بكلّ جوارحي، فرأيت أنْ أطرحَ عليه بعض همومي في جلسةٍ لم تخلُ من تبادل الهموم واستعراض المشقات التي تعرض لها الحاضرون، فإذا به يعبر عن تقديره لشخصي ويزيد على ذلك رغبته في المساعدة ، وهو أمر لا أنساه له ما حييت.
لقد قرأت عن شربل بعيني وسمعت عن لسانهِ: إنّه ابصر النور في بلدة مجدليا بقضاء زغرتا شمال لبنان عام 1951، ومنذ نعومة اظافره كان مولعًا بالقراءة، فاكتشف في سنّ صغيرة إنَّ علاقته مع الكلمة كانت كعلاقة الوليد بأمه. فدبجت انامله الذهبية اولى قصائده (قصيدة حرّة) نشرها بعمر 13 ربيعًا في إحدى المطبوعات بطرابلس وكان مطلعها: (عربي ما دمت انت عربي، فاخي انت ابن امي وابي). ثم اصدر ديوانه الشعري الأول وله من العمرِ 17 عامًا، وقد انبهر استاذه الراحل "جليل بحليس" بذلك المراهق، فأطلق عليه لقب "فرخ فيلسوف". ويعد ديوان (فافي) الذي نشره عام 2013، آخر مؤلفاته، حيث تغنى فيه بالشاعرة والاديبة المصرية المعروفة فاطمة ناعوت.
يوم كان شربل ذلك الشاعر المراهق لم يكن يعلم أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970"، سينغص عليه الحياة، ويحرمه من لبنان ومن حضن الوالدة [1] التي كان لها اليد الطولى والاثر الكبير في نجاحات شربل الإنسانية والأدبية؛ ففي ليلة من ليالي مجدليا الحالكة الظلام، وبعد أن رأى الديوان النور، قصد خوري الضيعة بيت العائلة وابلغ والدة شربل بأنَّ الكتاب لم يرق لبعض اشباح المكتب الثاني اللبناني يومذاك، وعلى شربل أنْ يرحل وإلاّ سوف يرمونه في البئر!.
هرعت والدته اليه وراحت تتوسل كي يترك لبنان، لكن شربل ابى الرحيل، لانه لم يخلق ليكون مشرداً في الأرض. ونزولاً لتوسلات الوالدة التي يكن لها حُبًّا جمًا، قرر شربل الهرب إلى ضيعة بعيدة عن يد البطش، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ ذات مساء دعي لالقاء قصيدة في مناسبة حزبية أو وطنية على ما أذكر من حديثه، نالت المديح، ولشدة الإعجاب قام بعض الحضور باطلاق العيارات النارية أحتفاءً وأنطرابًا بقصيدته التي ألبت عليه المعارضين والاعداء، وحتمت عليه الهجرة من لبنان قسرًا.
هاجر من لبنان عام 1971 إلى أستراليا، فوجد هناك مساحات من الحرية في الرأي لم يألفها في باريس العرب - لبنان، فلبنان كان باريسًا للعرب بجمالِ اراضيه وناسه وليس بساسته.
في أُستراليا امتهن شربل مهنة الحياكة في بادئ الأمر، إلى أنْ عملَ في التجارة، فادرك عن خبرةٍ ودراية كيف يجمع بين الأدب والتجارة؛ إذ مكنته التجارة من نشر نتاجاته الأدبية في المهجر الاسترالي، وقد أَلفَ المغتربون العرب أسمه كما أّلفوا الشهيق والزفير، بعد أنْ كتبت عنه الصحف العربية واجريت معه المقابلات على انواعها، فهو الذي كتب الزجل والشعر الحرّ والعامودي والنثر والمسرح بتفوق. ثم مارس رسالة التعليم في معهد سيّدة لبنان بعد عقدٍ من الزمن على دخوله سيدني، ألّف خلالها عشرات الكتب المدرسية التي ما زالت تُدرس في مُعظم المدارس الحكومية والخاصة، وأنشأ على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا، كأستاذ للغة العربية، اجيالاً من التلامذة في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك.
اغدقت عليه ألقاب كثيرة منها: أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين في عالم الإنتشار، الأديب العبقري، شاعر المهجر الأول، سيف الأدب المهجري، ملاح يبحث عن الله، رسام الكلمات، أسطورة الأدب العربي المهجري، شربل بقلبي[2].
ولقد حصدَ شربل بعيني منذ شبابه إلى يومنا هذا، أثمن الجوائز التقديرية، وحاز على جملةٍ من الألقاب. وكُرم كثيرًا، واعماله الأدبية انتشرت في الكثير من ارجاء المعمورة، بعد أن تُرجم بعضها إلى لغات عدة. فكان ولا يزال نجمًا وضاءً. وكيف لا ينتبه العالم لأدبه؟ وهو شمس الأدب العربي المهجري! فأدبه وجد كي يدوم.
حاصل على عشرات الجوائز، منها جائزة جبران خليل جبران العالمية وجائزة الارز للأدب العربي، وجائزة امير الادباء اللبنانيين، وجائزة الإبداع من مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام في 8 اذار 2012 بسيدني.، ودرع التكريم مع شهادة تقديرية من مؤسسة سواقي للثقافة والفنون بتاريخ 11/4/2014. وقد كرمته وزارة الثقافة اللبنانية بدرع الإبداع عام 2014 وهذه هي المرة الأولى التي تكرمه بلاده. كما أدرج اسمه مع نبذة عن حياته ومقطفات من شعره في معاجم عالمية وعربية أهمها: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين ـ الكويت، وموسوعة الشعر العامي اللبناني ـ بيروت، لبنان. إضافة الى الموسوعة الانكليزية التي أصدرتها جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
ولقد تميز شربل بالمزاج المتقلب أحيانًا والإنفعال السريع أحيانًا أُخرى، لكنه سرعان ما يعود ويهدأ ويلطف الأجواء خلال دقائق معدوة، ولا يغمض له جفن إن كان يعي أنَّ أحدًا قد أنزعج من كلمةٍ تفوه بها، أو سلوك أقدم عليه بغير قصد، فهو يعيد المياه إلى مجاريها بلطفٍ إنساني وكياسة عُهد بها. ومن خلال معرفتي الشخصية به ومطالعتي لنسبة كبيرة من نتاجاته، وجدته يولي المرأة الواعية المبدعة اهتمامًا خاصًا وإحترامًا كبيرًا في حياته، وإنْ كان تعدد زيجاته نغص عليه مُتعة الحياة ورحلته الأدبية، لكنه لا زال يكن للمرأة نفس القدر من الإحترام والتقدير. وتلك على ما يبدو سمة تصيب بعض المفكرين والأدباء الذين يجدون في تقدير المرأة ملاذًا من ضغوط الحياة ووطأة الفكر!!
وفي زمن بات فيه الكثيرون ضيقّي الأفق في محبتهم للإنسان كإنسان، وجدت شربلاً تميزه البراءة، مُخلصًا مع نفسه ووفيًا ومساعدًا للآخرين. لا يتضايق من نجاح أيّ شخص، بل نلقاه يدعم ويسند الآخرين ويأخذ بيدهم إلى طريق النجاح ويؤمن لهم الإنتشار. منسجمًا وصادقًا مع نفسهِ والآخرين، يقول ما يريد قوله دون مراوغة أو تمويه أو غش أو تملق...وقد علمني ونحن في هذا الزمن الرديء الذي يتوجب على المرء فيه أنْ يقول دائمًا ما يحب الآخرون أنْ يسمعوه، أنْ أقولَ كلمتي وأنْ أكونَ حُرّ الكلمة والمواقف حتّى لو وجهت لي سهام الغيرة والنقد، فعلى الأديب ألاّ يخشى لومة لائم ولا يهاب النقد الجارح غير الموضوعي.
في مطلع حياتي الأدبية وتحديدًا عام 2000 اسدى لي أستاذي الراحل الباحث الأب بطرس حدّاد، نصيحة مجانية مفادها: "أنت الآن دخلت في وسط لا تفقه خفاياه ومحنه، لانك في مقتبل العمر، ولكن أعلم يا ولدي أنَّ الدخول في رحاب هذا الوسط أشبه بتسلق الجبل، كلّما تقدمت خطوة نحو القمة تأتيك ركلة لتعيدك إلى الوراء عدة خطوات".
ولقد وجدت صدى لتلك النصيحة في حياة الكبير شربل بعيني، فكما أنَّ ذكاءَ المرء محسوب عليه فإنَّ تألق الأديب أو أيّ مبدع في شتى المجالات يكون خصمًا له. وفي تاريخنا العربي على مرّ العصور تعلمنا دائمًا أنه ويل لمن تطول قامته أكثر من اللازم! وفي محيطنا الشرقي ادركنا كلّما كثرت الأضواء على شخص كلّما كثرت حاجته لسيارات الأسعاف!. وقد أصابتني دهشة وصلت إلى حدِ الذهول، حين قرأت كيف تناولت سهام النقد أدب شربل بعيني وشخصه، رغم أنه لم يتردد في نشرها إيمانًا منه بحرية الرأي الآخر... وقناعة بعدالة الزمن الذي يُعده الحكم النهائي والمطلق على نتاج الأديب. وكما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، فإنَّ البعض من منتقديه عاد وأمتدحه وأثنى على شخصه وادبه، أما البعض الآخر فلم يعدل عن رأيه البتة.
حقق شربل أمورًا كثيرة، وأخفق في أمور أُخرى شأنه شأن سائر البشر، لأن الشاعر إنسان في أخر المحصلة؛ فالرجل كان يطمح إلى الأبوة ولم يحظَ بها، وذات يوم أسرّ إلي بأمنيةٍ لا تزال تؤرقه ومفادها: "لو مَنّ الله عليّ بالأبوة لتمتلت بأبي". لكنه عاد وهمس لي بنبرة الإتكال على المشيئة الربانية: "لتكن مشيئتك يا ربّ".
كما سألته في إحدى الجلسات: لو عاد الزمن بك إلى الوراء هل سوف تمتشق قلمك مرة أخرى وتجعله يعانق الورق؟ اجابني بسرعة: "نعم، وسوف أكتب أكثر ممّا كتبت، لان الله كلمة والكلمة لا تموت".
من مقولاته البليغة والخالدة: (العقل دائمًا يغلب البندقية شرط ألا يستسلمَ ). (البخيل انسان يموت مرتين ليعيش ورثته من بعده)). الأديب الذي يستعطي الناسَ من اجل نشرِ ادبهِ سينشر الناس ادبه على السطوح)،(الغرور داءٌ قاتلٌ لا يفتكٌ إلاّ بصغارِ العقول).(معظم الذين يحبون الجلوس على طاولات الشرف بلا شرف).
وللرجل موهبة الخطابة، فقد تميز عن اقرانه بأنه ملك المنبر، ولا شك أنَّ براعة الخطيب والشاعر أو أيّ متحدّث مهما علا قدره تتحدد في قدرته على الإيجاز وصياغة الفكرة العميقة في كلماتٍ قليلة وباسلوبٍ سلس والقاءٍ يشدّ الآخرين إليه. وقد تعلمت من شربل كيف أقف أمام المرآة والقي كلمتي خلال فترة زمنية لا تتجاوز الخمس دقائق قبل أنْ أعتلي خشبة المنبر! ولا تزال نصحيته تصول وتجول في ذاكرتي: " يا أبونا تذكر أنَّ المتحدث الذي يكثر الكلام على المنبر يضجر من حاله قبل أنْ يضجر منه الآخرون".
أما عن وصيتهِ فقد كتب: "وصيتي قبل أنْ أموت أنْ لا يقال أنني مُت". وكيف يموت شربل بعيني الشاعر والإنسان في ذاكرة الاجيال وهو القمر المُضيء الذي لا يعرف الكسوف.
عبرَ رحلة الثلاثين من العمر أدركت بوضوحٍ تام من كلّ المرموقين الذين ألتقيتهم في مجالات: الدراسة والكهنوت والأدب والفكر والثقافة وأصحاب الشهرة في الفن والرياضة والسلطة الذين جمعتني بهم الحياة من مُنطلق خدمتي الكهنوتية ورسالتي الأدبية، أنَّ الإنسان هو الإنسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره، وأنَّ توزيع الأدوار في الحياة قد جاء في كثير من الأحيان عبثيًا وغير عادل، فهناك من يولد موهوبًا وهناك من يولد مُعاقًا! وهناك من تحظى بقدرٍ من الجمال وهناك من تحرم منه منذ لحظة الولادة! وهناك من يولد والظروف في خدمته، وهناك العكس تمامًا! أما عن شربل بعيني فلا يسعني ألا القول بأنه يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ دائمًا ويمشي النجاح في ركابه أينما حلّ لأنه عرف كيف يختبر الحياة ويستوعب ما هو جوهري فيها ليرسم معانيها في كتاباته ويجسدها في سلوكياته النبيلة، وهذه نعمة ربانية من جهة، ومهارة ذاتية من جهة أخرى.
كتبَ شربل بحبر القلب، فقد كنتُ ألتهم صفحات كتبه قبل سنوات خلت مع غيرها من روائع الأدب العربي والعالمي وتراث الفكر الإنساني مثل الكثيرين من أبناء جيلي الذين استهوتهم المطالعة الورقية على خلافِ الجيل الحديث والمعاصر الذي اراه يميل بشدة إلى القراءةِ الالكترونية. ولعلّي هُنا اخبركم سرًا: خلال مطالعتي لمؤلفات شربل كان يعجبني فيها استغراقه الشديد بالتغني بلبنان وبالعراق الذي يعد من البلدان العربية التي نال منها إنتشاره العربي عبرَ المربد. إنّه المربد العراقي وما أدراكم ما المربد؟ كما شعرت أيضًا مع صفحات كتبه أنه أديب كبير وإنسان عظيم، يخفي وراء سطور كتاباته آراءً سياسية حبيسة ومواقف مختفية ممّن يديرون المشهد السياسي بلبنان الجريح.
سنوات مرّت من التألق والشهرة والالقاب والجوائز، لكن شربل ظلّ يتحسس في قرارة نفسه أنَ حاجة واحدة تنقصه، وهذه الحاجة هي التقرب من الله، وها هو منذ سنوات منصرمة يبحث ويتعمق. وإن كان قد كرس ما مضى من رحلة العمر للشعر والأدب والكتابة، ها هو منذ زمن ليس بالبعيد قد كرس نفسه كراهب في صومعته الكلمة يبحث عن الله.
شهادة للتاريخ أقولها في مسك ختام هذه السيرة: سيبقى شربل بعيني في ضمير القارئ العربي قمرًا مضيئًا وشمسًا ساطعة ونجمًا لامعًا، لا ينساه القارئ وكلّ من عرفوه عن قرب، ويكفي أن أقول إنه لا يغيب أبدًا عن ذاكرة أبناء لبنان بأعتباره البلد الذي جُبل من تربته، ولا يغيب عن ذاكرة استراليا التي قضي فيها ثلثي حياته وأطول مدة من النتاج الأدبي الجاد، فارتبط المشهد الثقافي العربي باسمه واقترنت صورته الحديثة بإنجازاته الغنية، فالجميع يحملون شعلته المضيئة ويكنون المحبة والولاء لاسمه الكبير.
وسيظلّ شربل كبحر لا يمكن سبر أغواره، نكتشف فيه كلّ يوم اللآلىء والأسرار الخفيّة، ونظلّ بحاجة إلى مزيد من الغوص والتبحر لاكتشاف كنوزه الإنسانية. ونظل بحاجة للنظر في فضاء أدبه الخالد للتحليق عاليًا، علنا نبلغ بعض أجوائه، ونستنشق قسطًا من أنسام عبير سُموّه.
لقد عاصر الرجل زمنًا جميلاً احتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها، ولا غرو أن قلت أنه من زمن الشوامخ ومن طينة الكبار كجبران وميخائيل نعيمة و سعيد عقل والجواهري وعبد الوهاب البياتي و يحيى السماوي، الذي أطلق عليه لقب "عميد الأدب المهجري" في كلمة منشورة بموسوعة شربل بعيني بأقلامهم الالكترونية.
إنّه شربل بعيني كما عرفته، فقد أدركته كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، ولا عجب في هذا، فالمعادن الطيبة لا تصدأ أبدًا، وإنَّ شموخ الرجال العظام يجعلهم كالأشجار الطيبة الثمار واقفين باسقين حتّى نهاية رحلة العمر.
إنني اليوم، أحني الرأس احترامًا لأسم شربل بعيني وأجلالاً لشخصه البريء وعطائه المتصل بالثقافة ودوره المرموق في تاريخ الأدب الحديث، فقد أقتحم بقلمةِ وكلمته الكثير من الأبواب الموصدة وعالج بحنكته العديد من الموضوعات الشائكة. تحية عراقية مني لذلك الارز الشامخ الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" الذي ينتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة النفيسة ثم يصوغها أمام القارئ في حلة قشيبة،
هذا قليل من كثير عن قديس الكلمة شربل بعيني الذي يقف من زمنٍ على قمة هرم الثقافة المهجرية. آمد الله بعمرهِ . آمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن نسيت فلا أنسى أنطباعات أصدقاء شربل عن تلك المرأة؛ فقد سمعت منهم خلال أطراف الحديث ( الله يرحم أمك القديسة يا شربل). ولا أعلم أيّ صمت كان يراود الرجل يوم باح لي بما يخالجه في الاعماق: "ما اشتقت إلى شيءٍ في حياتي قدر اشتياقي إلى حضن امي". لقد طبعت والدته اثرها في حياته أكثر من أيّ إنسان آخر. وإنْ كانت الحكمة تنص: وراء كلّ رجل عظيم أمراة، فشربل كان وراءه سيّدة قديسة، رحلت عن عالمنا الفاني هذا منذ سنوات خلت. عليها رحمة الله.
2) أطلق هذه التسمية على شربل كلّ من الأب يوسف جزراوي والمخرج المسرحي موفق ساوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق