سركيس كرم.. الزغرتاوي الثائر

 عرفت سركيس كرم منذ سنتين فقط، دخل الى مكتبي حاملاً بعض كتبه بالعربية والانكليزية، فاجأته بانتقادي له، كونه ذكر في كتابه "تجربتي مع التيار ـ لبنانية لبنان 2010"، أسماء معظم الشعراء اللبنانيين في المهجر الأسترالي ولم يذكرني، وفاجأني بجوابه المقنع:
ـ لقد ذكرت أسماء من تعاملت معهم، وأنت، وللأسف، لم أتعامل معك أبداً.
ولكي تكتشف معدن أي انسان انتقده بإخلاص وصدق، أي دون أن تتجنى عليه، وانتظر ردة فعله، وهكذا فعلت، فلقد انتقدت طريقة كتابته للشعر العامي اللبناني، وأنه بحاجة الى الموسيقى والوزن، فوافقني الرأي دون تردد، وأذهلني بجوابه:
ـ أنا لست شاعراً، وما أكتبه هو للتعبير عن فكرة ما خطرت برأسي.
ومن خواطره الشعرية أختار:
اهدن جنة وللمجد ينبوع
فيكي النسر بيطال ابواب السما
وكرمال العز يعلي بها الطلوع
بدو الهوا الطالع من باب الهوا
وكما ترون، فسركيس لم يهتم بالوزن، ولا بالقافية، اذ أن البعد بين "السما والهوا" بعد "الميم" عن "الواو". كل همه أن تصل صورته الجميلة هذه الى القراء، وقد وصلت.
هنا، بدأت أعجب بتواضع سركيس بك كرم، كما يحلو لي أن أناديه، رغم رفضه للقب، وإصراري عليه. فقليلون جداً هم الذين يتقبلون النقد، ويعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة، وهنا تقع المصيبة الكبرى، فإما أن تقول الصدق وإما أن تكذب عليهم. وقد شجعني سركيس على قول الصدق لأنه صادق.. ويرفض أن يكون نصف اله.
قابلته تلفزيونياً عدة مرات، ولم يتلعثم أمامي، لدرجة شعرت معها أنه المحاور والمجيب في آن واحد، وأن دوري في المقابلة لم يكن سوى الوقوف خلف الكاميرا.
هاجم الزعماء، واعتبر أن لا خلاص للوطن إلا بتحجيمهم، وأن الشعب اللبناني مرغم على الانصياع لهم لأنهم يسيطرون على كل شيء:
ـ قال البطل "فلأضح أنا وليعش لبنان"، وما كان كلامو مجرد كلام. أما الشعار الفعلي ل كتار من "أبطال" اليوم فهو للأسف الشديد "فليضحى لبنان لأعش أنا".
وأيضاً:
ـ يا حرام ع لبنان.. كل سياسي فيه فاتح ع حسابو.. ولا حسيب ولا رقيب طالما الجمهور بينسا وبيسامح بسرعة البرق كرمال المصلحة "الوطنية العليا"!!.
هذه ثورة شاب زغرتاوي، هجرته عن "مرقد عنزته" سياسات تافهة، وزعامات شرسة، وطائفية بغيضة، فصرخ بأعلى صوته:
ـ "عم نحلمك يا حلم يا لبنان" من دون طائفيي ومذهبيي وآذاريي وزعامات وتصاريح سياسيي.
وكمغترب، لم أجد أصدق من كلامه هذا في حب لبنان:
ـ فينا نهاجر من لبنان بس ما فينا نخليه يهاجر من قلوبنا.
سركيس كرم ديموقراطي حتى العظم، ولكي يثبت القول بالفعل كان الرئيس الوحيد في هذه الجالية الذي تخلّى عن رئاسته كي يفسح المجال لغيره، رغم نجاحه المنقطع النظير بإدارته لجمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية، وهو القائل:
ـ كم أتشرف وأكبر واعتز بأن أكون من أصغر العناصر بين رجالك يا يوسف بك.. أحارب بقلمك، وأتعلم من قيمك، وأحيا بسيرتك.
وأنا أيضاً، يا صديقي سركيس، أتشرف وأكبر وأعتز بصداقتك، بقلمك، بقيمك، وبسيرتك.
المرجع:
ـ خواطر وأحلام.. من غربة لا تنتهي ـ سركيس كرم، مطبعة القارح ـ زغرتا، 2014
شربل بعيني
**
الرجاء قراءة التعليقات

هناك 11 تعليقًا:

  1. سركيس كرم11:25 ص

    كلامكم استاذ شربل بعيني يعني لي الكثير وهو وسام أكبر به وأفتخر..
    أن ما تقوم به من عمل جبار في الإضاءة على الأعمال الفكرية والنشاطات الثقافية والتراثية والوطنية والانسانية قد حوّل الغربة الى وطن، وجعل الوطن يتألق بحضوره في كل أصقاع الدنيا..
    نحن نتعلم من الكبار وليس لنا أن نتطور إلا من خلال كبار الكلمة والمعرفة وانتم في طلعيتهم استاذ شربل..

    ردحذف
  2. د. محمود العرجة ـ دبي11:39 ص

    شربل بعيني يقول كلمته ويمشي غير عابى بأي شيء، فهو إذا انتقد رفع المنقود الى أعلى مستوى، أي بدلاً من أن يحطمه يرفعه، وهذا ما فعله في هذا المقال، فلقد رفع سركيس كرم الى الأعلى، وجعله نبراساً يقتدى به، ومدرسة يتتلمذ عليها أنصاف الآلهة. وقد فهم سركيس لعبة شربل فشكره قائلاً: نحن نتعلم من الكبار. من دبي ألف تحية لشربل وأرفع قبعتي لسركيس كرم الزغرتاوي الثائر

    ردحذف
  3. دلال يوسف ـ البرازيل11:45 ص

    زغرتاوي وثائر.. هنا العظمة!

    ردحذف
    الردود
    1. سركيس كرم1:26 م

      زغرتا تظل قلعة الثوار وأولهم يوسف بك كرم

      حذف
  4. سركيس كرم11:46 ص

    شكرا للدكتور محمود العرجة على هذه المداخلة المميزة بدقتها والقيمة بسمو اخلاقيات كاتبها ..
    تحية لكم من صميم المحبة والاحترام..

    ردحذف
  5. يسرية الجابري ـ القاهرة11:54 ص

    صحيح إني ما بهمش اللهجة اللبنانية، بس كلام الاستاذ سركيس كرم كان مفهوم قوي، الاستشهادات رائعة، وبتدل انو الربيع اللبناني قادم من زغرتا.. فأفكار زي دي حا تغيّر لبنان. شكراً سركيس بيه كرم

    ردحذف
  6. سركيس كرم1:28 م

    احترامي وتحياتي للأستاذة يسرية الجابري وتحية لمصر الحبيبة

    ردحذف
  7. الأب يوسف جزراوي8:15 م

    إنّي ارى في شربل بعيني عصرًا كاملاً يسير على قدمين، وفكرًا متقدًا لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولا ندوب الأحداث، ولقد لفت نظري في أدب وشخص شربل بعيني ونقده الأدبي، هو امساكه لميزان الكلمة بحيادية وموضوعية قلّ نظيرهما في زماننا هذا، فضلاً عن أدبه الجم ونزعته الصوفية الواضحة وجاذبيته الإنسانية. فهو رغم كلّ هذا لا يزهو بما يملك من قامة أدبية، بل يزهو بتقربه من الله الذي جعله ينصف الذين جعلوا من اعماقهم فرناً للكلمة، فغدت كلماتهم وكتاباتهم خبزًا للجميع.
    أما سركيس كرم الذي ادركته متأخرًا، فهو لم ينسَ وطنه الأصيل لبنان، وظل مؤمنًا بالارز اللبناني، بكلِّ مكوناته؛ فكان محل التوقير الدائم والإحترام الكامل والإعجاب الشديد، إذ ليس المهم أن تملك الموهبة وحدها، ولكن أن تُضيف إليها الشخصية الرصينة والجاذبية الإنسانية التي تعطي للكاتب ولكلمته تألقًا وتفردًا، وهنا تكمن قيمة المرء. وسركيس كرم هو من هذه الطينة.
    تحية عراقية لشربل بعيني الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" الذي ينتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة النفيسة ثم يصوغها أمام القارئ في حلة قشيبة. وتحية مماثلة لسركيس كرم ذلك الزغرتاوي الثائر الذي قدم قلمه قربانًا للبنان.
    الأب يوسف جزراوي/ سيدني

    ردحذف
    الردود
    1. سركيس كرم10:31 م

      تحية من القلب والوجدان لكم حضرة الأب الفاضل والكاتب المتألق يوسف جزراوي الأنسان الكبير بوطنيته وإنسانيته وإيمانه.. كم أعتز بصداقتكم وكلامكم النابع من فكر يشّع بالعطاء .. أدامكم الرب بهذا العطاء والإلتزام برسالة الكنيسة المباركة..

      حذف
  8. لوريس اسطفانوس ـ كولون ـ المانيا11:12 م

    أقل ما بقال في هذا المقال انه صادق، وان شربل بعيني لم ينتقد أخانا سركيس بل حوله الى رمز أدبي يتقبل النقد، في زمن لم يعد أحد يتقبله وللأسف. ومن هنا أجبرنا على احترام ابن عائلة كرم الأصيلة وتقديره أدبياً، وطالبنا أن نكون مثله عند النقد، لا أن نثور ونلعن من ينتقدنا. وقد صدق شربل حين أطلق عليه لقب الزغرتاوي الثائر، لأن الاستشهادات تثبت ذلك. تحية لأدبنا المهجري في أستراليا.

    ردحذف
  9. سركيس كرم6:44 ص

    تحية لك استاذة لوريس اسطفانوس مع تقديري واحترامي ومحبتي

    ردحذف