هل كتب عليّ الاغتراب الأبدي?

   
أبي وأمي: سركيس وبترونلة بعيني
القضية الوحيدة التي لا أحب أن أخبر أحداً عنها هي قضيتي مع الغربة.
   قلت: قضيّتي، ولم أقل قصّتي، لأن مرافعاتي الطويلة المرهقة ضد الغربة، ما زالت أصداؤها تتردد في قاعة محكمة الضمير الانساني، الذي بدأ الصدأ ينخر خلاياه النتنة، بعد سكوته المشبوه المقرف عن حرب حصدت الأرض والمسكن والسكّان، ولم تترك لناً خياراً إلا الموت أو الرحيل. 
   وأذكر يوم ودّعت أهلي في أواخر عام 1971، كيف أجهشت أمي بالبكاء، وأخذت تقبّلني بنهم شديد، وهي تتأوّه وتقول:
ـ الى أين أنت ذاهب يا شربل؟ هل بإمكانك أن تجد بلاداً أجمل وأفضل من لبنان؟
ـ غربتي لن تطول يا أمي.. سنتان فقط وأعود.
ـ سنتان، سنتان، كلمة سمعتها مراراً من أخويك أنطوان وجورج اللذين سبقاك الى هناك. تصور أن عمّاتك وعمومتك هاجروا منذ عشرين سنة ولم يعودوا بعد!.
ـ وحياة عيونك سأعود.. صدقيني يا أمي.
ـ اخواك وعداني بالعودة.. وما زلت أنتظر..
ـ أنت تعرفين وضعي، والضغوط التي أعاني منها.
ـ كان بإمكانك أن تعيش "برواق"، من دون أن تجرح أحداً، أو تعاديه بكتاباتك.
ـ أريد رضاك يا أمي.. فبدونه لن أوفّق.
ـ ولمن ستترك وطنك، أهلك، أصحابك، ذكرياتك، مكتبتك، وكل الدفاتر التي كنت "تخرطش" عليها أشعارك.
كما نشر في العراقية
ـ بخاطرك يا امي..
   وأقسمت أن أعود، وحاولت جاهداً أن أكون صادقاً معها، وأن لا أخنث بوعد قطعته أمام عينيها الطاهرتين، وعلى مسمع من الرب. ولكن رياحي المادية جرت بما لا تشتهي سفني، فمرت السنتان مثل لمح البصر، ورسائل أمي تتكدّس في أدراجي حاملة في طيّاتها ألف ألف تأنيب وسؤال عن يوم الرجوع.
   وفجأة تبدلت المقاييس بعد اندلاع الحرب اللبنانية اللئيمة، التي كانت قريتي الآمنة مجدليا مسرحاً لبعض فصولها، فأحرقت منازلها، وتشرد سكانها، وهاجر أهلي الى أستراليا، فانقطعت بذلك آخر صلة انسانية لي بالوطن، بعد أن سرقت الغربة معظم أقربائي، وقضى "الواجب الوطني" على من بقي منهم هناك.
   والمضحك المبكي هو أن أمي التي كانت تلح علي بالرجوع، بدأت تتغيّر، وتجابهني بأسئلتها الكثيرة كلما فاتحتها بالموضوع:
ـ لعند مَنْ تريدني أن أرجع.. إخوتك وعائلاتهم هنا، وأهالي مجدليا استوطنوا أستراليا، وأصبح عمري على شفير الهاوية؟
ـ إذا قال كل واحد منا ما تقولين، ستبتلعنا الغربة الى الأبد؟
ـ .. والعصابات، والغش، والتزوير، والواسطة، والزعيم الذي تطالب كل من يصفّق له أن يقطع أصابعه تكفيراً عن فعلته الشنيعة. عش يا شربل هنا، لأنك ستقتل هناك.
ـ إذا عدتِ معي، أعدك أن لا أكتب.
ـ لا تكذب يا بنيّ، أنت مدمن على الكتابة.
ـ هذه هي مكاتيبك لي، إقرئيها، هل نسيت ما بداخلها من تأنيب لعدم عودتي الى لبنان.
ـ من يوم ركبت الطائرة بصحبة أبيك، لم أعد أذكر شيئاً.
ـ أبي كان يحلم بالعودة..
ـ لو بقي حياً الى يومنا هذا، ورأى المجازر التي تحصل هناك لغيّر فكره.
ـ رحمه الله.. مات وهو يردد اسم مجدليا وبيروت ولبنان.
ـ وأصبح قبره مزاراً نقصده كل أسبوع.. أتريدني أن أتركه وحيداً في قبره؟ هل جننت يا ولدي؟
ـ سأنقل جثمانه الى مجدليا.. إذا وافقت على العودة.
ـ وهل بإمكانك أن تنقل ثلاثين ابن وكنة وحفيد وحفيدة؟
ـ لا، بالطبع، هذا شيء مستحيل.
ـ إذن، دعني أموت هنا، واقبرني قرب والدك.
   وها هي الآن ترقد قرب أحب انسان الى قلبها، والدي سركيس بعيني. وصدقوني أن الغصة لا تفارق قلبي، فحبّي للبنان، ووفائي لهذه البلاد المضيافة، عوامل تتصارع في داخلي، وتقضّ مضجعي، لدرجة أصبحت معها أتساءل:
ـ هل كتب علي الاغتراب الأبدي؟
شربل بعيني
**

هناك تعليقان (2):

  1. ناصر الخايك11:35 ص

    أخى وصديقى العزيز شربل، ايها الكاتب والأديب الكبير..ياصاحب الإحساس المرهف والقلب الذى لا يعرف الكره والبغضاء ولا ينبض إلا بالحب.

    كلماتك لامست شغاف قلبى وتسللت إلى وجدانى.

    ناصر الحايك-فيينا النمسا

    ردحذف
    الردود
    1. شربل بعيني12:16 م

      أعتقد يا أخي ناصر أن قصتك مع والدتك الحبيبة مشابهة لقصتي تماماً ولهذا تأثّرت بمقالي. أشكرك على التشجيع.

      حذف