حنينة ضاهر: يا أللـه نجّنا من هذا الشاعر المجنون

من بين الكلمات الكثيرة التي نردّدها في مجال التغنّي بلبنان، ومعطياته الجمالية والثقافيّة والحضاريّة و.. و.. و.. إلى آخر المعزوفة المموسقة القافيّة والرنين، كلمة لعلّها الأكثر صدقاً ومطابقة للواقع، خاصّة في الظرف الراهن، الكلمة هي: لبنان إمبراطوريّة لا تغيب عنها الشمس.
هذه الكلمة، أو هذا التبجّح، ورد من زمان، أيام كان اللبنانيّون المغتربون لا يشكلّون عشرة بالمئة من مجموع اللبنانيين، وكان لا يخلو من الحقيقة أو بعضها، فكيف بها الآن، وقد أصبح ثلاثة أرباع اللبنانيين، إذا لـم يكن أكثر، منتشرين في جميع الموانىء والمطارح، ليس بدافع السياحة وحب الاستطلاع، بل للبحث عن مكان يستطيعون فيه أن يذهبوا إلى أعمالهم صباحاً، بدون أن يكتبوا وصيّتهم، ويعودوا مساء إلى منازلهم، وليس إلى ديار الآخرة، أو إلى أحد المستشفيات، أو المصحّات العقليّة.
هذا الواقع الذي يتخبّط به اللبنانيّون منذ أربع عشرة سنة، ولمّا يزل، هو الذي أعطى للكلمة مفعولها الإيجابي على كل شبر من الأرض، ما عدا لبنان الوطن والأرض، الذي أصبح لبنانات عديدة موزّعة على كلّ مكان. فمن النادر، بل من المستحيل، أن تجد مكاناً في العالـم لـم يصله اللبنانيّون. وبقدر ما تكاثر الاغتراب اللبناني، وتنوّعت أسبابه، بقدر ما تعدّدت مناطق الاغتراب، واتسعت رقعته. فقديماً كانت مناطق الاغتراب التي يقصدها اللبنانيّون، تكاد تكون محصورة بين أفريقيا والأميركتين اللاتينيّة والشماليّة. أما الآن فما من دولة في العالـم لـم تفتح أبوابها أمام اللبنانيين.
من ابرز البلدان التي اصبحت محط رحال الاكثرية من اللبنانيين وانظارهم في الآونة الاخيرة، اثنتان: هما كندا واوستراليا، ذلك للطاقة الكبيرة اتي تمتلكها الدولتان على استيعاب العدد الكبير من السكان والمساحات الشاسعة من الارض التي تمتد عليها، ومجالات العمل الواسعة المتوافرة فيها لجميع الاختصاصات والمستويات، كذلك لما توفره للوافدين اليها من فرص العمل والحماية والطمأنينة، وما تؤمنه لهم من ضمانات ومكاسب وحرية فكر وتحرك على كافة الصعد العملية والمادية والثقافية.
من ثمار هذه المناخات المؤاتية تطالعنا بعض الانجازات الفكرية من اوستراليا، نسجلها كنماذج لما تقدمه تلك البلاد المضيافة من رعاية وتشجيع لكل موهبة تتواجد على ارضها، واحتضان كل بادرة مثمرة بالدعم والمساعدة المادية والمعنوية.
من أستراليا، ومن مدينة سيدني بالتحديد، بين يديّ بعض المعلومات، وبعض النتاج الشعري. أمّا المعلومات فلقد تلقّفتها عن شفتيّ الشاعر المنبري الصديق جان رعد، إثر جولة شعريّة قام بها إلى تلك البلاد الخيّرة، وما لقيه في رحابها من معاملة مثالية، ورعاية فائقة، ما برح وسيبقى يحتضن دفأها في خلجات الحسّ، ونبضات الوجدان.
أما النتاج فمن ثـمار موهبة الشاعر المبدع شربل بعيني، المغترب إلى أستراليا منذ العام 1971، نزيل مدينة سيدني. النتاج هو أربع مجموعات شعريّة، هي على التوالي: مراهقة 1968، الغربة الطويلة 1985، رباعيّات 1986، وأللـه ونقطة زيت 1988.
قبل الدخول إلى عالـم شربل بعيني الشعري، يجدر بنا أن نعرف من هو شربل بعيني الانسان.
شربل بعيني من مواليد بلدة مجدليّا، شمالي لبنان، عام 1951. أصدر أول مجموعة شعريّة له، وهو ما زال في السابعة عشرة من عمره، بعنوان مراهقة، وقصائد مبعثرة 1970. هاجر إلى أستراليا في أواخر العام 1971. هو أول من أصدر كتاباً بالشعر اللبناني في أستراليا، وقد تناولت جميع الصحف الصادرة بالعربيّة في أستراليا وسواها من بلدان الانتشار اللبناني نتاجه الشعري بالتقييم والتحليل، وشاعريته بالإطراء والتقدير. والمجموعات الأربع التي ذكرتها ليست هي كل إنتاج شربل، بل هناك سلسلة طويلة من أسماء المجموعات التي أصدرها، تتعدّى الخمسة عشر اسماً، بين نثر وشعر. ومن الطبيعي جدّاً أن لا أكون قرأت المجموعات الأربع التي وصلت إليّ، في هذا الزمن الرمادي الذي نعيشه، إلاّ قراءة فوريّة وسريعة، وعلى ضوء ما قرأت بسرعة، أودّ أن أتحدّث عن هذا الشاعر الديناميكي، الذي لا يضيّع لحظة واحدة من لحظات حياته إلاّ مع الشعر وللشعر.
قلت: بسرعة قرأت، وأنا أعرف مسبقاً ما سيترتّب على هذا القول من نتائج، ولكن.. عندما تدخل إلى حديقة وارفة اللون والعبق، ويدغدغ حواسك الأريج، وتسبح عيناك بالخضرة والعطر، هل ستكون بحاجة إلى تفحّص كلّ زهرة على حدة، كي تعطي رأيك باسمها، وخصائص عطرها، وفصيلة دمها، لتقول هذه وردة جميلة؟!.. بالطبع لا. وهكذا الشعر، فإما أن يكون شعراً من الشهقة الأولى، والرشفة الأولى، وإمّا لا يكون.
ومن الرشفة الأولى سأكتفي الآن بالتحدّث عن "أللـه ونقطة زيت"، النتاج الأخير لشربل بعيني.
أول ما استوقفني هو الاسم العنوان "أللـه ونقطة زيت". كم هو مثير هذا الاسم، بخاصة في مساحات الشعر اللبناني. وكم يدعو إلى الدهشة والاستغراب: "أللـه ونقطة زيت". يا أللـه نجّنا من هذا الشاعر المجنون، الذي يجعل نقطة الزيت تتساوى مع اللـه، أو العكس، ولكن... وعندما نتعرّف إلى فاعليّة وقدرة نقطة الزيت تلك في مضمونها، وماذا بإمكانها أن تحمل.. أو ماذا سيحمّلها الشاعر من مسؤوليّات وأعباء، قد تلغي صفة الجنون عن شربل، أو.. سنبارك له بها.
شربل بعيني لـم يضع نقطة الزيت هذه في معادلة مع اللـه كفراً، بل.. إنه منتهى الإيمان. فهذه النقطة قد تكون المنظار الذي من خلاله يتجسّم كل ما يلمسه من حوله من ممارسات وتصرّفات وهرطقات، هي أبعد ما تكون عن مفهومه المصفّى للـه والدين والتعامل والوطنيّة. من هنا تنتفض (الأنا) الشاعرة كأعنف وأقسى ما تكون انتفاضة الإيمان الصادق وثورته على كل ما هو دجل ورياء. وشربل بعيني في انتفاضته الإيمانيّة بركان متفجّر، هو يكاد يجرف في طريقه كلّ شيء.
القصائد الأربع والعشرون التي تضمنّها كتاب "أللـه ونقطة زيت"، تمتاز بالعفويّة والصدق. فشربل بعيني يكتب بتلقائيّة ملفتة فائقة البراءة وكيف ما أراد، بلا خوف وبلا عقد. فالشعر هو صوته، ضميره، هو هويّته الشخصيّة. شعره تفجّرات علويّة تحمل من الأهداف أكثر ما تحمل من الصنعة، ومن الذكاء أكثر من التذاكي. الكلمة على شفتيه غجريّة مجنونة، تنطلق عارية عرياً كاملاً.. تماماً كالحقيقة.
غريب هذا الشاعر التصادمي، الذي يعيش في المقلب الآخر من الأرض. أرض المصانع والمادة الجليديّة الحس والذوق والنبض، ومع ذلك، نراه يتفجّر كالشّلال الهادر، وما من شيء يقف في وجهه. يطبع المجموعات الشعريّة، بمعدّل كل سنة مجموعة. يحيي الأمسيات، ينشر في الصحف، وتتلقّف كلماته الناس، كل ناس الاغتراب، كرسائل الوطن وبطاقات العشّاق، وكيف ما كان، فهي أحياناً كسياط من نار، وكماء الزهر ومكاغات الأطفال أحياناً، وفي جميع الحالات تعشّش في الوجدان، وتزهر فوق الوسائد، وهو هو طفل يتفتّح الإيمان في قلبه، وعلى شفتيه تتعثّر الكلمات:
كل شي خلقتو بيحكي عنَّك
عن حبَّك.. عن ضحكة سنَّك
عن هَـ الإيدين المفتوحَه
عن هَـ الخير الفايض منَّكْ
إنتْ الشَّجره الْـ فوق التَّلِّه
إنتْ القمحَه بوكر النّملِه
يا خالق وبتخلَق هلَّقْ
بْرعشة قلبْ.. بزهرة زنبَقْ
مِن دون عْجايِب مِنْصَلّي.
وصفاء ايمان الشاعر لا يقف الا عند مصدر الايمان، فلنسمعه يكمل فعل ايمانه الذي اختطه لنفسه منطلقاً وقاعدة:
وْنِحْنَا دَايْماً مِنْلاقِيكْ
بْأَزْغَرْ مَخْلُوقَات الْكَوْنْ
بِالزَّهْرَه الْـ غَامِرْهَا اللَّوْنْ
بِالْعُصْفُور الْـ عَمْ بِيغَنِّي
بِالنَّحْلِه الْـ ما بْتِطْلُبْ عَوْنْ
ومن هذا البوح المؤمن، من هذا الانصهار الكلي في النقاء الايماني والروحي، و.. اقلب الصفحة.. من فضلك:
شَخْص مْفَبْرَكْ مِنْ جَفْصِينْ
وْجَفْصِينُو عَمْ يِرْشَحْ زَيْتْ
وِبْيِتْحَوَّلْ دَيْرَكْ بَيْتْ
وْنِسْوَانْ تْبَخِّرْ لِلدِّينْ
وْحُبَّكْ.. هَـ الأَسْمَى مْنِ الْحُبّْ
بْيِنْزِلْ بِمْزَاد التُّجَّارْ
وْبِنْدُورَات التِّعْبَانِينْ
دَخْلَكْ يَا أَللَّـه شُو صَارْ
بِيشُوفُوكْ بْنِقْطِةْ زَيْتْ
وِبْيِنْسُوا إِنَّكْ أَللَّـه
هذا الرجل الوقح، هذه الفريسية الساخرة، يواجهها الشاعر الانسان، كل شاعر انسان، ألا تحرّض على الثورة. ألا تستوجب امتشاق السوط وطرد السماسرة من الهيكل عبى يد شاعر مؤمن:
كتروا رجالك.. لكن قلّوا
وقت الـ مشيوا مراحل صلبك
والدين اللي رسمتو كلّو
تا يوصّل عالجنّه شعبك
باعوه.. وبعدن بيصلّوا
احرقهن كلّن من دون شفقه
كلّن شكّوا الحربه بقلبك
و:
تْجَارَه.. تْجَارَه صَفَّى الدِّينْ
بْإِيدَيْن رْجَال مْلاعِينْ
شْيُوخ وْكَهْنِه وْحَاخَامَاتْ
عَ شْفَافُنْ مَطْبُوعَه الْـ (هَاتْ)
وْبِجْيُوبُنْ خَبُّوا مْلايِينْ.
....
بْرَمْت الدِّنْيِي طُول وْعُرْضْ
تَا أَعْرِفْ لَيْش الْكفَّارْ
انْقَرْضُوا مْنِ شْوَارِعْنَا قَرْضْ
وْصَفُّوا بِمْعَابِدْنَا كْتَارْ!!
إذا كنت قد اخترت مجموعة أللـه ونقطة زيت كي أتحدّث عنها من بين المجموعات الأربع، التي وصلت إلى يديّ، فليس هذا لأن الثلاث الباقيّة لا تستحق الاهتمام، بل العكس هو الصحيح، فالموهبة المتفجّرة، والإبداع التصويري المبتكر، والوهج الشعري المبهر، والأسلوب المميّز، الذي يتفرّد به شربل بعيني، إضافة إلى صياغة جيّدة، وموقع هو الوسط بين الكلاسيكيّة العريقة والحداثة المنظّمة، التي تعتمد التجديد في الفكرة والموضوع والمعالجة، أي التجديد من الداخل، كل هذه المواصفات التي يتقنها شربل بعيني، ويمارسها في خطّه الشعري، رأيتها موزّعة بين المجموعات الأربع التي ذكرتها، ولكني ركّزت في حديثي عن أللـه ونقطة زيت، لأنني اكتشفت بين سطورها شاعراً مميّزاً بثلاثة أشياء مهمة هي: النضج الفكري والشعري في المعالجة أولاً، والإيمان العميق الواعي المتحرّر من التهويل والهرطقة ثانياً، وثالثاً هذه الثورة العارمة المتفجّرة في كل كلمة وكل حرف وفاصلة في قصائد شربل بعيني، على كل ما هو غلط وفساد وانحلال خلقي، وزيف اجتماعي، ودجل ديني.
شربل بعيني في أللـه ونقطة زيت هو مصلح اجتماعي، أكثر منه شاعر ينظم الشعر للشعر، على وزن الفن للفن، ولعلّه الوحيد، من بين الذين عرفتهم من جيله، الذي يتعامل مع الشعر على أنه رسالة ومسؤوليّة، يتوجّب عليه القيام بها وتوظيفها لإسعاد أمتّه، وإصلاح مجتمعه. فالشعر، قبل أن يكون أحلاماً وتنهدّات، هو رسالة، وعلى الشاعر تأديتها حتّى آخر نقطة من دمه، وآخر صورة شعريّة تتثاءب في خياله.
الانوار البيروتية، 30 ايار 1989
التلغراف، العدد 2140، 11 تشرين الاول 1990
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق