في واحة الشعر/ بطرس عنداري

الحديث عن الشعر وتحديد حالاته، حديث مريحٌ في هذا الزمن الذي تحوّل فيه الأدبُ الى واحة بعيدة لا يقصد ماءها، واخضرارها وجمالها إلا الذين ما زالوا "تقليديين" بعفوية أحاسيسهم، وخفقان قلوبهم، وعشقهم لأهازيج التراث، ولرفة كل جنح أو رمش يداعب الأنسام.
يبدو من الصعب على من امتهن الصحافة أن يعود الى واحة الشعر بعد عقد ونيّف من الكتابة عن الحديد والنار والسيّارات المفخخة وتطاير الجثث مع تفجير الأحقاد والكراهيات.. ولكنه مفرح أن تتحرر الكلمة من عقال الخوف وان تخرج من حقل الالغام الى دائرة الانفراج والتنفس من الاعماق.
وبعودتي الى مناخ الشعر عثرت على حقيقتي وأصالتي وعفويّتي المطلقة، عثرت على مبادئي القومية الانسانية الملتصقة دائماً بالاصالة والتراث من عصر الجاهلية وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد، الى عصر نزار مروراً بأبي العلاء وأبي الطيّب، وبالذي "رأى السيف أصدق انباءً من الكتب".
ان الحديث عن الشعر مريحٌ للنفس، لأن الشعر لا أعداء له، بل كيف يكون للابداع والحب والجمال أعداء ومنافسون؟
الشعر حالة وجدانية لدى الشاعر يصوّر خلالها أحاسيسه المرهفة، ويضمّنها نبضات قلبه. وعن هذه الحالة الوجدانية تنتقل الصور والتجارب الحياتية، وهنا يكمن الابداع، وتظهر القدرة، حيث أصبحنا نطلب من الشعراء، اليومَ، أن يعالجوا معاناة المجتمع، ويصوّروا ما يدور حولهم من عذاب وهناء، أو كدح ورخاء.
ومن هذه المحطة ننطلق لالقاء نظرة تقييمية على ديوان شربل بعيني الجديد "الغربة الطويلة" المكتوب باللهجة اللبنانية المحكية، المتفق على تسميتها بالزجل اللبناني.
والزجل تراث قديم تطوّر بسرعة منذ مطلع هذا القرن، وكان وما زال له قممه وروائعه، والزجل لم يعد أهازيج فلكلورية ومداولات فطرية فقط، بل أضاف الى ثروتنا الشعرية الحديثة اثراء اضافياً من مستوى رائع، فمع رشيد نخله، وأسعد السبعلي، واميل مبارك، واسعد سابا، وخليل روكز، وايليا ابو شديد، ويونس الابن، عاشت وتعيش جمهرة كبيرة من الشعراء الزجليين المبدعين.
ونؤمن ايماناً قاطعاً بأن شعراء القمة، في أي عصر وجدوا، غير قادرين على إخفاء وتحجيم أي شاعر، لأن الكلمة الشعرية نفحة عطر لا تحجبها الشواهق والقمم. والمؤسف هو أن نقرأ لبعض النقّاد والمعلقين أشياء تحاول مسخ بعض الشعراء وأصحاب المواهب، لأنها ليست بنظرهم من مستوى انتاج يعتبرونه مثالياً لمفكري شعراء القمّة.
قرأت منذ سنوات ديواناً صغيراً لشربل بعيني أسماه "إلهي جديد عليكم"، واستغربت التسمية، ولكنها كانت تؤشّر وتبشّر بجديد قادم، وقد شعرت خلال اطلاعي السريع على "الهي جديد عليكم" بأنه تضمّن عينات مشجعة لمنجم شعري قريب الغلة والمواسم.
سنوات قليلة بين "الهي جديد عليكم" و"الغربة الطويلة" ولكن رحلة الشعر تبدو طويلة باتجاه نضج التجربة، وتحويل العينات الى قيمة ذات شأن، وكلامنا هذا لا يعني بأن الديوان الجديد يلغي الذي سبقه، ولكنه مكمل له باضافة لبنات البناء الشعري المنشود لعالم يحلم كل شاعر بتشييده.
ان الشعر الذي نعدّه شعراً، وخارج رصف الكلام، ورنّة الأوزان، هو ذلك الذي تجاوز البناء العمودي التقليدي بمعانيه، وليس بالخروج على القافية. ولا أخفي بأني من المتمسكين بالوزن، ولحلاوة الأوزان وموسيقاها وقع في نفسي، يضاهي روعة الشعر. ومن مهمات الشاعر الاساسية في هذا العصر، وفي كل العصور، هي "أنسنة" الشعر، أي تحويله الى معالجة وتصوير قضايا الانسان، ومشاكله، والتصاقه الدائم بالمجتمع، وإلا تحوّل الشعر الى قوالب جامدة ورصف كلامي لا دور له في مجتمعنا.
وبهذا المفهوم ندخل ديوان "الغربة الطويلة"، الذي تتصدره قصيدة بنفس الاسم، هي في الواقع نقوش في ذاكرة جيلنا المعاصر، ومعركة لتحديد الغربة، غربة المواطن في وطنه، وخارج وطنه. الغربة عن النفس، الغربة عن التقاليد الدافئة، وهنا تبرز صدمة الشاعر:
وِبْيُوتْنَا اللِّي فِيهَا تْرِبَّيْنَا
وْعِمَّرْنَا مْدَامِيكَا بْإِيدَيْنَا
وِغْزَلْنَا سَاحَاتَا بْإِجْرَيْنَا
نَكْرِتْنَا!!
وِالأُم اللِّي بِكْيِت علَيْنَا
وْخِبَّيْنَا صُوَرْهَا بْعِينَيْنَا
قَبْل الشَّمِسْ مَا تْغِيبْ
وِدَّيْنَالاَ مْكَاتِيبْ
لاَ فَتْحِتُنْ
لاَ قِرْيِتُنْ
وْبِالْمَوْقَدِه الْـ قِدَّامْ بَابَا حَرْقِتُنْ
وتكمل قصيدة "رجال القوافل" رحلة الغربة والاغتراب، ويبدو التواصل جلياً:
زَرْعُوا الْمَوَاسِمْ.. وِالْمَوَاسِمْ خَيْرْ
وْنَصْبُوا خْيَامُنْ بِـ وَطَنْ تَانِي
زِعل النِّدِي وِانْبَح صَوت الطَّيْرْ
وْتِكْيِت غْصُون الْحَوْر دِبْلانِه!!
وأتوقّف عند قصيدة "ألف حجه" التي تقتحم موضوعاً انسانياً يواجه البشرية منذ أقدم العصور، وأحاسيس جامحة، ورؤيا عقلية للصراع بين عواطف المرأة وكرامتها وواقعها، هذا الصراع المتزايد في عالم اليوم، نرى شربل بعيني يحلّه بالنموذج الشرقي، وربما يكون ذلك من التقاليد الخيّرة، التي تحفظ الرباط الاجتماعي والعائلي في زمن بتنا فيه بحاجة ماسة الى التماسك العائلي، والتمسّك بأهداب تقاليدنا التي نعتبرها تراثاً أخلاقياً حميداً.
هكذا يعطينا شربل امرأة "تحدق بالشمس بأجفان جامدة"، كما يقول جبران، وقلب متسامح ملتصق بدفء البيت وكرامته، متجاوزاً الآلام والمعاناة:
شُو هَمّنِي؟.. مَعْلَيْشْ
لَوْ خَانْنِّي نِتْفِه
وْعَ دْرُوبْ الطَّيْشْ
يِدْبَحِ الْعِفِّه
الِمْهِمّْ يِبْقَالِي
أَطْوَعْ مِنِ خْيَالِي
وِيْحِطّْ رَاسُو بْغِنْجْ عَ كِتْفِي
وْغَطِّيهْ بِـ شَالِي
وِيْقُولْ: مِتْلِكْ بِالدِّنِي مَا فِي
يَا مْرَيْحَه بَالِي..
وْرَغِمْ شَكِّي وْصِدقْ إِحْسَاسِي
قِرَّرْتْ إِمْحِي الْوَهم مِنْ رَاسِي
وْطَيّرُو عَ جْوَانِحِ الصِّدْفِه
وْإِضْحَكْ بْعِبِّي وْتَمْتِمِ لْكَاسِي:
وْجُودُو مَعِي بْيِكْفِي!!
هذا الخروج عن عالم الزجل التقليدي، والولوج الى حالات "البيت الشرقي"، يذكّرنا بنزار قبّاني عندما نشر ديوانه الثاني "أنتِ لي" منذ ثلث قرن، وتطرّق الى حالات اعتبرها بعض النقّاد مراهقة، ولكنها كانت صوراً لتجارب البيت الشرقي، وحالات معيّنة يعيشها مجتمعنا وما زال.
وبعد هذه العينات القليلة من ديوان "الغربة الطويلة" لا يسعني إلا أن أشير الى أن الديوان، مثل غيره من المؤلفات الشعرية، لا يخلو من القصائد التقليدية، وهذا لا نعتبره عيباً أو نقصاً، حيث من الصعب جداً أن يجيء أي ديوان إبداعاً متكاملاً، ومجموعة روائع شعرية.
ولا أخفي بأنني لا أستسيغ في اللغة الشعرية عبارات مثل: "الوحل اللي مغطّى جريي" "بحبّ الإشيا المجويّه"، كما لا يمكن أن تدخل دنيا الشعر، التي هي دنيا جمال وأزهار ونسائم منعشة قصيدة عنوانها "جزمة ألله".. وقوافٍ مثل: 
"بالآخر برجع صرصور
خايف من جزمة ألله".
وهذا الشاعر نفسه ينشد بلاده قائلاً:
صوتي مبحوح وحنجرتي
نشفت من هبّات غبارك
والغنيّه الكانت إنتي
اندبحت وانشلحت ع حجارك
ونترك للقارىء ان يكتشف الجوانب الأخرى من هذا الانتاج الجديد، متفائلين بفتح جديد للشعر والأدب في هذه الديار.
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق