شربل بعيني أسطورة الأدب العربي المهجري/ الأب يوسف الجزراوي

في سدني كنتُ قد تعرفتُ بواسطة صديقنا العراقي السيّد زيد البيداري الموقر، على الصحافيّ اللبناني وهو السيّد جوزيف بو ملحم المُحترم صاحب مطبعة (راليابرس)، فغدا هذا الرجل الكريم والأمين أحد اصدقائي القلائل، ومع الأيام تعمقت صداقتنا،لاسيّما حين قمتُ بطباعة مجلة الكنيسة التي كنتُ أخدم فيها وطباعة أحد مؤلفاتي بمطبعته العامرة. مرّت الأيام ليعرض عليَّ السيّد بو ملحم / أبو أمين- رغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا وإجراء مقابلة في مجلته (مجلة الغربة ) الغرّاء، لاسيّما بعد مطالعته لكتابي الموسوم(خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له: يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أسمع عن الشاعر اللبناني (رسّام الكلمات) شربل بعيني الذي تمكن من رسم أجمل الصور الشعرية والإنسانية بواسطة كتاباته العميقة المُعبرة عن عمقه ونضجه الإنساني، والذي أمتدحه الشاعر العربي الأكبر نزار قباني رحمه الله. ألتقينا في غذاء محبة في مدينة ميريلاند بسدني، فقلتُ في نفسي يا محاسن الصدف! وأخيرًا ألتقيت بالشاعر الذي كرمه بلدي العراق في مهرجان المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي مُنح جائزة جبران خليل جبران العالمية. وبالفعل تم لقاء التعارف، وإذا بيّ أمام صرح أدبي عملاق! أملتُ سمعي إلى كلامه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا، إنقضت ساعة وإثنتان، فالإستماع إليه شيّق ومُفيد، يُنسيك الطعام، فكلامه غذاء للفكر ودواء للذات، لباقته وحديثه وثقافته ونكاته جعلتني أنسى دروس الموسيقى وإلتزاماتي الكنسية والحياتية. مضت الساعات لنغادر المكان معًا، وليدعوني إلى زيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلامية)، كان لقاءً ثقافيًا، إنسانيًا مُثمرًا. ولا أخفيكم سرًا كم هو عظيم ومفيد أن يجتمع الإنسان بإناس تجمعه معهم شراكة الفكر والإبداع، أُناس نكبر من خلالهم فكريًا وروحيًا وثقافيًا وإنسانيًا.
وهكذا يومًا بعد يوم بدأت اواصر العلاقة تتوطد بيننا، فتعلمت من أدبه وكتبه الكثير، واستفدت من تجاربه الحياتية، فهو رجل قد أختبر الحياة واستوعب ما هو جوهري فيها.
كان لي الشرف بأن يقوم الأستاذ شربل بعيني بالمراجعة اللغوية لمؤلفي الموسوم" المبدعون غرباء عن هذا العالم" والذي صدر حديثًا في سدني، ولعلَّ أجمل ما قيل وكُتب في أدب الأب يوسف جزراوي ما سطرته انامله الذهبية حينما قال في كلمة كتبها وألقاها في حفل توقيع مؤلفاتي الثلاثة (ثلاثية الجزراوي) يوم 12/11/2011 على قاعة كنيسة مريم العذراء بسدني:".... فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص".
ما لفت إنتباهي في كلمة إديبنا العربي الكبير في ذلك اليوم، ليس ما نطق به من كلمات جميلة صادقة صدرت من فيض قلبه وفكره وحسب، بل كيف استطاع أنْ يجعل الحاضرين والذي فاق عددهم عن الـ(300)، أن يصغوا بعمق ودراية ويشدهم للإستماع إليه باعجاب! إنَّ كلماته هذه، لوسام كبير على صدري وشهادة غالية أعتز بها من شاعر المهجر الأول.
لقد كُتبَ عن أدب وشخص الأديب شربل بعيني مئات المقالات وعشرات الكتب والتي تُزين اليوم رفوف مكتبتي التي تزيد عن ألف كتاب ومجلة. فقلت في قرارة نفسي:هل سأضيف شيئًا جديدًا أو أضيف رصيدًا معنويًا لبوصلة الشعر العربي في عالم الغُربة والإغتراب، وهل أسطورة الشعر العربي المهجري بحاجة لشهادة أديب صغير مثلي؟ هذا هو الهاجس الذي كان يراودني ويمنعني عن الكتابة. إلى أن تجرأت؛ فسحبتُ أوراقي وامسكت بقلمي وكتبتُ هذه السطور لسبب وجيه وهو: إنني أنشأت ذاتي على أن أكون وفيًا لكل من تعلمت منه شخصيًا أو من خلال كتاباته وخبراته، علاوة على ذلك فشربل بعيني يستحق أن يُكتب عنه مجلدات لا صفحات، فكانت هذه الكلمة المُقتضبة، علني أفي فيها أستاذنا وصديقنا الأستاذ شربل بعض حقه .
شربل بعيني مدرسة إنسانيّة مُميزة، تخطى بأدبه حدود العالم العربي ليُحلق إلى العالمية. بعد أن منح ثمار إبداعه للناس، وقدم عصارة فكره وأحساسه بأسلوب سلس وشيق يخلو من التعقيد ويبتسم أحيانًا بروح الفكاهة.
إنَّ من حق كل أمة أن تزهو بعباقرتها وتتباهى بأدبائها، ويحق لنا أيضًا أن نضع شربل بعيني في رأس مفاخرنا الأدبية في هذا العصر.
لقد أنجب لبنان العديد من المُفكرين والأدباء والفلاسفة والمبدعين.. والأسماء لا تحصى، ولكن هنالك ثلاثة مبدعين لا يمكننا أن نمر عليهم مرور الكرام. مُبدعون يعرفهم القاصي والداني بعد أن افرزوا للعالم رحيق إبداعهم، وهم جبران خليل جبران- ميخائيل نعيمة- شربل بعيني. ، ولا أنسى الكبير نزار قباني الشاعر السوري الذي عاش سنوات طويلة في لبنان.
لقد أشعل شربل بعيني شمعة حياته من طرفيها فاكتوى بنار الإبداع، وأنتج وأبدع لنا أكثر من خمسين مؤلفًا ومئات المقالات، جعلته نجمًا ساطعًا وخالدًا في سماء الأدب اللبناني والعربي والعالمي... فبصم بصمته في جبين الأدب والشعر والمسرح، ليوجّه أنظاره ويكرس وقته منذ زمن ليس بالبعيد إلى الإعلام الإلكتروني من خلال تلفزيون وراديو ومجلة الغربة الألكترونية.
إنّه شربل بعيني؛ الرجل الوقور، الشاعر الإنسان، والمؤلف المسرحي، والأديب العبقري، والكاتب المُميز، الطيب المُحب، الخلوق، الكريم المعطاء، طيب المعشر، بشوش الوجه، فصيح اللسان، حلو الكلام، عفيف النفس، صاحب المُخيلة الجامحة، الخدوم، قلبه ناصع البياض، حُرّ الكلمة، قلبه وفكره ينبضان بالحبّ والصدق والأمل والتشجيع والمواكبة والإبداع..هذا هو شربل بعيني كما عرفته كأديب وإنسان.
لقد حصد شربل بعيني منذ شبابه إلى يومنا هذا، أثمن الجوائز التقديرية، وحصد جملة من الألقاب. وكُرم كثيرًا، واعماله الأدبية أنتشرت في الكثير من ارجاء المعمورة، بعد أن تُرجم بعضها إلى لغات عدة. فكان ولا يزال وسيبقى نجمًا وضاءً. وكيف لا ينتبه العالم لأدبه وهو شمس الأدب العربي المهجري! فأدبه وجد كي يدوم.
لقد أُجريت معي العديد من المُقابلات واللقاءات، ولكني لن أنسى ما حييت المقابلة التلفزيونية التي أجراها معي الأستاذ شربل بعيني يوم 10/11/2011 في تلفزيون الغربة بسدني. ولا تسقط من ذاكرتي أيضًا اللقاءات التي حاورني فيها صديقنا الإعلامي المُميز غسان نخول. ما أريد قوله: لقد تعلمت هذه المرة الكثير والكثير، ولكن ليس من شربل الأديب، بل من شربل الإعلامي.
أختم كلمتي المُتواضعة هذه بأمنيتين، الأولى: أنْ يمد الله بعمر شاعرنا الكبير شربل بعيني ليرفد من خلال كتاباته ومؤسسته الاعلامية، الأجيال الحاضرة والقادمة بكل ما هو مُفيد وبناء. والأمنية الثانية: أنْ يُعاود امتشاق قلمه ليدبج لنا باسلوبه الرقيق والجذاب وباحساس الأديب والفنان أجمل الأشعار.... فبانتظاره الكثير من القرّاء.
الناس في رأيي ثلاثة في الأقل: الحاضر الحاضر. الحاضر الغائب. الغائب الحاضر....وشربل بعيني الأديب والإنسان هو نموذج للإنسان الذي إبدع وأثمر، فعاش ويعيش حضورًا حياتيًا وأدبيًا جعله من الأحياء الخالدين. وما الخلود؟ سوى انك تمر بالحياة وتلتقي بالآخرين، فتترك آثرًا، وبقدر ما يكون حجم وعمق وكثافة آثرك الإيجابي والإبداعي، بقدر ذلك سيكون حجم حضورك وخلودك في هذه الحياة.
شربل بعيني، قمر مُضيء في ليل الحياة.. إنّه بحق لأديب كبير. أطال الله بعمره. هذا أبسط ما يمكنني أن أتمنى وأقول.
**
هوامش:
[1]  لقد أشاد الأديب العربي الكبير شربل بعيني بوفاء الأب جزراوي لأستاذته، فيقول:" الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".(كلمة شربل بعيني في تقدديم كتاب المبدعون غرباء عن هذا العالم. ألقيت يوم السبت 12/11/2011 في سدني).

الأب يوسف جزراوي
في ذكرى رسامتي الكهنوتية

هناك 5 تعليقات:

  1. إيلي عاقوري1:28 م

    Mabrouck ya Charbel …Very nice from Father Joseph …God bless you Charbel

    ردحذف
  2. أنطوني ولسن1:30 م

    إضافة تعليق على مقال قدس أبينا يوسف عن الصديق شربل بعيني
    معرفتي بالأخ والصديق شربل بعيني تعود إلى سنوات مضت ، وسنوات مستمرة بمشيئة الرب . رحم الله الأم التي صنعت إبنها شريل فجعلته الرجل الإنسان أولا ثم الشاعر والقاص والكاتب الأدبي والمسرحي والإعلامي . وهذا هو السبب المباشر الذي دفع أبونا يوسف بالتعبير عن مكنون قلبه ناحية الأخ والشقيق شربل وكان من الطبيعي أن تأتي كلماته صادقة كل الصدق ، معبرة عن حقيقة إنسان إسمه شربل بعيني .
    فشكرا لك قدس أبينا .

    ردحذف
  3. شوقي دلال ـ لبنان7:08 م

    ما كتبه قدس الأب يوسف الجزراوي عن شاعر وكاتب كبير صديقنا وحبيبنا الاستاذ شربل بعيني هو بحر من فيض ما يقدمه لنا الأستاذ شربل بعيني من جماليات شعرية تلون حياتنا بالفرح وتقول لنا أن الدنيا لا تزال بألف خير ، شكراً لسيادة الأب يوسف الجزراوي على ما كتبه نيابة عنا جميعاً ولشاعرنا الكبير طول العمر وإلى مزيد من العطاء
    اخوكم شوقي دلال

    ردحذف
  4. رندة المذبوح موسى10:02 م

    Hi Charbel, I read this article, it is excellent, enjoyed reading it. Randa

    ردحذف
  5. رفيق البعيني ـ مزرعة الشوف7:33 م

    شكرا للأب يوسف الجزراوي لمقاله عن شربل بعيني الأديب والشاعر والأعلامي والانسان. وان ابدع في وصفه وتحليل شخصيته لكن الصفحة التي كتبها من أين لها ان توجز الخمسين كتابا التي ألفها ومئات المقالات والمسرحيات، ولكن يكفي ان يقول:"لقد انجب لبنان ثلاثة مبدعين هم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وشربل بعيني".
    ويحق للبنان ولآل البعيني الذين أنجبوا شربل ان يكون لهم حق المفاخرة والاعتزاز.
    هنيئا للبنان وشكرا للأب الجزراوي

    ردحذف