كلمة د. مصطفى الحلوة في حفل توقيع كتابه " شربل بعيني بين الفُصحى والعاميّة"

 


مجدليا، قاعة الخوري أنطون بيّوس البعيني/ السبت 26 شباط 2022 


ما جئتُكِ، مجدليا، هذه العشيّة، مُنتديًا حول كتابي المتواضع فحسب، ولم أسعَ إليكِ كي أُكرَّمَ- وتكريمُكِ لي موضعُ فخر واعتزاز- فأنا ذلك الدرويش العازفُ عن حُطام الدُنيا وبهارجها، أحمل قنديلي، في رابعة النهار، كما ديوجين، باحثًا عن الحقيقةِ العارِية ومنتصرًا لها، حتى الرمقِ الأخير، لا أرتجي جزاءً ولا شُكورًا!

ما جئتُكِ، مجدليا، إلاّ لأستحضِرَ، من وراء المحيطات، شاعرَكِ الذي رفع رأسكِ عاليًا، وطبع اسمكِ على شمسٍ لا تغيب، لأستحضرَ ذلك المتعبِّد لكِ، آناء الليلِ وأطرافَ النهار.. صلاتُهُ تسابيحُ ما انفكَّ يتلوها، منذ نيِّف وخمسين عامًا:" يا مجدليا، بحبِّكْ عْبَادِه/ رغم الضياعْ بغُربة المجهولْ/ المجدلاوي بينعطى شَهادة/ إنسانْ مُخلِصٌ بالتُقى مجبولْ/ بالمغتَرَبْ بِشرِّفْ بلادي" (ديوان "ابن مجدليا" ص 160).

أجل! أحبائي، أهلَ هذه البلدة، التي تستبطنُ المجدَ والحنان، جئتكم لكي أرى في وجه كل واحدٍ منكم، بل في وجه كل مجدلاوي ومجدلاوية، شربل بعيني، المُصابَ بداءِ الحنين إلى الربوع التي أنبتتهُ، والعالقَ على شفير هاوية الانتظار!

يقينًا، أحسبُ أن هذه القاعة تضجُّ بصوته، وهو يتلو فعل الندامة، وقد استبدّ به الحنينُ ولوعةُ الاشتياق إلى مسقطه: " ما عاد بدِّي عيشْ بالهجرانْ/ قِرفانْ من كلمة هَجِرْ قرفانْ/ مشتاقْ إرجَعْ بوِّس حروفِكْ/ واوقَفْ عَ بابْ كنيستِكْ ندمانْ" (ديوان "ابن مجدليا"، ص ص : 162- 163).

وها نحنُ، أحبائي، هذه العشِيّة، بجوار الكنيسة التي يرنو إليها شاعرُنا، فلنا أن نردِّد معه وبلسانه:" لماذا الهجرُ، يا ربي طويلُ/ أعِدْنِيَ، لا تُطِلْ فيَّ اشتياقا".

أيها الأحباء،

قد تستغربون كيف لباحثٍ أن يضعَ مؤلَّفًا وافيًا، حول أديب/ شاعر، بل يغورُ إلى عُمقِ أعماقِهِ، يتماهى  فيه ليعيش كل لحظةٍ من لحظاتِ إبداعِهِ، وهو لم يلتقِهِ حتى هذه الساعة ؟!

أجل! لم ألتقِهِ، لم ألتقِ شربل بعيني عيانًا، ولكنني ألتقيهِ فيكم- أنتُمْ أهلَه ومحبِّيه وقادريه- فنِعمَ الدوحةُ  البعينية ، ونِعم المحبون ونِعمَ قادروه!

لن أُحدِّثكم، أحبائي، عن كتابي، فقد أُعطيتِ القوس باريها، حين أُسنِدَت هذه المهمة إلى الصديق الأديب محسن أ. يمين، فأفلح في القبض على مفاصله، وفي تقويمِهِ أيّما تقويم!

قصّتي مع شربل بعيني، أحبائي، ذاتُ فصولٍ، لعبَ فيها القدرُ لُعبتَه، وقد استعرضتُها في مقدمة الكتاب، تحت عنوان : " قصتي مع البعيني والطريقُ إليه"، فلكم أن تتعرّفوا هذه القصة، ولي، في هذه العُجالة، أن أُجيبَ عن قضيتين، هما من القضايا المحورية لهذا المؤلَّف. 

أولى القضيتين: لماذا هذا الكتاب، الذي صدر في سيدني العام 2020، وجال في أرجاء أستراليا، وجاء ليحطّ الرحال في لبنان؟ وأما ثاني القضيتين، لماذا شربل بعيني دون سائر أدباء المهجر الأسترالي وشعرائه المشتهرين؟ 

عن القضية الأولى، فقد جهدتُ في إبراز ما للشعر بالمحكية من جمالات بل مجالات إبداع، لا تقل عمّا للشعر بالعربية الفُصحى، وأن الشاعر الشاعر هو من يستطيع أن يُبدِعَ في كلا هذين اللونين الشعريين، وقد فعلها شربل بعيني، إذْ جمع مجدهما، وكان من المُفلحين! ولكم أن تُعاينوا مطوّلتَه العصماء "المربديّة"، التي ألقاها في أحد مواسم احتفال المربد في العراق، إذْ ضمّنها الشعر العمودي الخليلي، إلى الشعر الحرّ، وإلى الزجل، فكانت هذه القصيدة حُجَّةً له، لمرةٍ واحدةٍ وفي وقفة شعرية واحدة.

هكذا تماهى اللبناني المجدلاوي بالعربي النِجار، وكان خَلْقٌ في أحسن تقويم! 

لقد كان للبعيني وأقرانِهِ، من شعراء المحكيّة، أن يتكلّموا بلغتهم المحليّة وبلسانِ قومهم، إقتناعًا منهم أن اللغة هي أحدُ مكوِّنات الهويّة الوطنية والثقافية والانتماء إلى الحيِّز الجغرافي، ذي الخصوصية الأصيلة. وإذا كان من ميزة فارقة للمحكية، فهي، وفق الباحثين في علم اللغات" القوتُ اليومي للشعوب!".

وأما عن القضية الثانية: لماذا شربل بعيني، فقبل الإجابة عنها، لا أبالغُ إذا قلتُ إن صفحاتٍ وصفحات تُقصِّر عن إيفاء شاعرنا العملاق حقه، وإذْ نحاولُ، فذلك غيضٌ من فيض مسيرتِهِ الإبداعية التي لا تعدِلها أية مسيرة: 

- شربل بعيني، لأنه، إلى كونِهِ مُتجذِّرًا في المغترب الأسترالي، منذ نيِّف وخمسة عقود، يحملُ قضية وطنه الأم (لبنان) في عقله، ويُعانيها جرحًا منغرسًا في قلبه، ووجعًا يؤلمهُ، حتى آخر العمر!

- شربل بعيني، لأنه الطاعنُ إيمانًا في زمن لبنانيتِهِ، لا يرتضي منها بديلاً :" وَقْتْ اللي بحاكيكن/ لا تقولوا هيدا نصراني/ وقت اللي بحاكيكن/ لا تقولوا هيدا قرآني / أنا ما بحاكيكن/ ولا الحكي بيطلع عَ لساني/ إلاّ ما حاكيكن/ لبناني ابنْ لبناني".

- شربل بعيني، لأنه المتقدِّم، بل  المتصدِّر أقرانَه، من شعراء الصف الأوّل، في المغترب الأسترالي، على جبهة الشعر: فصيحِهِ ومحكيِّه.

- شربل بعيني، لأنه "شاعر الغُربة" من دون مُنازع، مثَّلَ شعرهُ شلاّلاً هادرًا دفّاقًا، في خضمّ شعر المنافي، ولما يَزَلْ بعد نصف قرن دائم التدفُّق. وتكريسًا لهذا اللقب ، فقد كان لمسمّى "الغُربة" أن تحوي أذرُعُهُ الإعلامية: إذاعة  وتلفزيونًا ومجلة.

- شربل بعيني، لأنه المتأجِّجُ أبدًا في الدفاع عن قضايا الأمة، لا سيما قضية فلسطين، وعن سائر قضايا العرب ، في وجه أعداء الأمة الذين يتناوشونها، من كل حدبٍ وصوب.

- شربل بعيني، لأنه ذلك "الجبراني" و"النزاري"، الثائر على الحلف الجهنمي بين بعض تجّار الهيكل والساسة الفاسدين، الذين باعوا وطنهم وأفقروا شعبهم، وذرّروا الكثير من أبنائه ، في أربع جهات الأرض!

- شربل بعيني لأنه الداعية إلى العيش الوطني اللبناني الواحد، المعترف بالآخر المختلف، عقديًا ودينيًا، فما يهمه الإنسان، والإنسان وحده، بريئًا من كل انتماءٍ فئوي أو جهوي أو عرقي!

- شربل بعيني، إذا أبقى اسمه طيَّ الكتمان، فإنك لا تعرفه، إذْ يتكلّم، إلى أي طائفةٍ أو دينٍ ينتمي، فهو عابرٌ الطوائف والمذاهب إلى رِحابِ الإنسانيةِ السَمحاء!

- شربل بعيني، لأنه باقٍ ذلك "الطفل" السبعيني المحبّ، طيِّب القلب والسريرة، لا يُماري ولا يُداهن، المتواضع الذي لا يُصعِّرُ خدّه للناس، ولا يمشي في الأرضِ مَرَحًا، من مُنطلق إيمانِهِ بأن الله لا يُحبُّ كلَّ مختالٍ فخور!.

- وشربل بعيني أخيرًا، لأنه ذلك المجدُّ، المنهمُّ، العاكف ليلَ نهار، وحتى الجنون، على وضع نتاجِهِ، لوجهِ العلم، بين يدي الناس، لا يرتجي إلاّ خدمة الأجيال، وخدمة الأدب العربي وفنونه، في مغتربه الأسترالي، وما وراء وراء هذا المغترب، وقد طبّقت شهرته في الآفاق!

... هوذا، أحبائي، ابن بلدتكم، فتشامخوا- يا أهلَهُ- وارفعوا الرأس عاليًا، فقد أنبتت لكم هذه الأرض الطيبة المباركة شاعرًا، قد لا تجودُ الأيام بمثله!

في هذا المجال، والقولُ بقولٍ يُذكر، أستميحُ ابن رشيق القيرواني عُذرًا، فأذهبُ مُقايسًا على ما أحدثه المتنبي من كبير فعلٍ: " ثم جاء شربل بعيني فملأَ دُنيانا وشغل الناس!". كما استحضرُ قول نزار قباني، في إحدى رسائله إلى شاعرنا: "شربل بعيني دوَّخ قارة أستراليا!".

أجل! دوّخها، بعظيم شعره، محكيًا وفصيحًا، وبأعماله المسرحية الأربعة عشر، وبعشرات دواوينه، فكان "طاحونة نشر كتبٍ"، كما وُصِفَ، وبما كُتب عنه وما قيل فيه، وبمقابلاته الصحفية التي تبلغ بضع مئات، وبالجوائز التي حازها من مختلف بلاد العالم، ودوّخها بسمو منظومة القيم التي اعتنقها، ولم يحِدْ عنها قيدَ أُنملة!

.. ختامًا، أتقدّم بجزيل الشُكر من رعية السيدة مجدليا، راعية هذا الحفل والداعية إليه، والشكر موصولٌ لخادم الرعية الصديق الأب عبود جبرايل، مهندس هذه التظاهرة الفكرية الرائعة، وللصديق الأستاذ وليد فرح، رئيس نادي روتاري زغرتا الزاوية، والشكر للصديق العزيز الأديب محسن يمين الذي شكَّل إضافة نوعية في مقاربته الكتاب. والشكر لجوقة رعية السيدة مجدليا، بقيادة الآنسة جوزيت المقدسي، وللفنان الملحن السيد الياس المقدسي، والشكر للحضور الكرام، فردًا فردًا، من أهلنا في مجدلياوالجوار وطرابلس وسائر المناطق. وأخيرًا الشكر لأخي الشاعر المحبّ شربل بعيني، وقد أردتُ هذه التظاهرة تكريمًا له في عُقرِ داره، فأنا ممتنٌّ له إذ أتاح لي هذه الفرصة الغالية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق