شربل بعيني في "معزوفة حب": هاجس النضارة/ فؤاد نعمان الخوري

   ينحو الشاعر شربل بعيني في ديوانه الجديد "معزوفة حب"1 منحى متطوراً، في سياق مسيرته الشعرية الممتدة على مدى عشرين سنة ونيّف. ولئن كان الاستاذ جوزاف بو ملحم اعتبر في مقدمته "ان الشعر دار دورته الأولى"2 إلا أن شربل، برأيي، قد تجاوز نفسه في هذا الكتاب، من حيث اللعبة الفنية والومضة الشعرية، بحيث أراه يتسلق جبل النضارة مشملاً، مختصراً، معمقاً تجربته، دقيقاً في اختيار ألفاظه. صحيح أن قصائده لا تخلو من شوائب، لكن الانطباع العام عنها هو انها تشكل نقلة نوعية كبيرة في شعر شربل.
   وقد لاحظت، أن شاعرنا يترك "الخمرة الجيدة" للصفحات الأخيرة من الديوان، وادهشني أن أرصد في قصائده القديمة المنشورة في بيروت عام 1971، نضوجاً فنياً قد لا يتوافر في ثمانيناته!. هل أثرت الغربة على الشاعر الشاب المهاجر حديثاً، آنذاك، فانعطف من رمزية مصنوعة باتقان الى مباشرة عفوية لا أثر للصنعة فيها؟
   لا شك أن الجمهور الأدبي، في المغتربات البعيدة، يدفع الشاعر دفعاً في متاهة الالقاء المنبري، "وكلنا بالهو سوا"، لكن المنبرية لا تغني عن قصيدة العين المحبوكة خيطاً خيطاً، نقطة نقطة، ومن هذه المحبوكات قصيدة "ذكريات"3، التي اتخذتها موضوعاً لهذه المقالة.
ماذا في "ذكريات"؟
1ـ القصيدة:
ـ1ـ
كل الغنيّات الحلوه الغنيّتيها
حفظوها الناس 
وكتبوها كلاّ بإسمك
ـ2ـ
كل الطلاّت المضويّه الطليتيها
منتذكرها طله وطله
كلما لمحنا صدفه.. رسمك.
ـ3ـ
زهرات الغربه سقيتيها
من ينبوع الطهر الجاري
بمرجة جسمك
ـ4ـ
ايدين الناس مسكتيها
ووصلتيهن متل اليقظه
للأرض اللي عم تعطيها
إسمك،
رسمك،
جسمك،
دمّك.
2ـ البناء الكاتدرائي
تمثّل قصيدة "ذكريات" عمارة هندسية متكاملة، مؤلفة من أربعة أعمدة، تتوجها قبة عالية، مثل كاتدرائية تشكل أعمدتها أساساً لقبّتها، وتعطي قبّتها، حاملة الجرس، معنى احتفالياً للأعمدة الباردة من خلال علاقة جدلية رائعة.
ومما يزيد في الجو الطقسي، استعمال بعض المفردات المسلوخة من شبية عتيقة، مثل "ينبوع الطهر" او "الطلات المضويه".. وتؤدي كلمة "الناس" المستعملة مرتين، في هذا النص القصير اضاءة اضافية على شخصية صاحبة القصيدة. انها كما يبدو مغنيّة "الغنيّات الحلوة"، تواكب الأضواء طلّتها "الطلاّت المضويه"، تمتاز بالطهر "ينبوع الطهر"، مرشدة حنونة "ايدين الناس مسكتيها". هذه الصفات الاربع: الغناء والضوء والطهر والارشاد، قد لا تتوافر في امرأة من لحم ودم، وأغلب الظن انها المرأة ـ القصيدة. فالقصيدة هي مغنيّة بموسيقاها، تطل من بين أضواء الحلم، تسقي الغربة ماء طهرها، تقود خطانا الى الارض.. و"الارض" في الغربة لا تعود أرضاً بالمعنى الحصري للكلمة. قل هي التراب والاهل والذكريات، كل ما في الوطن من لحظات مشرقة.
وتأتي المفاجأة الكبيرة في الكلمة الأخيرة "دمّك"!! فإذا كان "اسمك" مستعاراً من المقطع الأول، "ورسمك" من الثاني، "وجسمك" من الثالث، فإن كلمة "دمّك" هي جرس القبّة، لأنها تأتي من خارج البناء نهاية مأساوية للمسيرة الاحتفالية السعيدة. هكذا يسفح الشاعر دم القصيدة عندما يحبسها في ألفاظ جامدة تبقى عاجزة عن الاحاطة بكل ما في نفس كاتبها، لكن دمها، رمز خيانتها، يصبح مكملاً ل "ينبوع الطهر"، فإذا هو رمز قيامتها من السقوط في وحل اللغة ـ المصطلح الاجتماعي.
3ـ الشاعر والمطلق
المطلق حبيب الشاعر، قبلته، محط عينيه المتعبتين.. لذلك تراه يكره النسبية، يرفض التسويات، يمقت الحلول الوسط، وقد يكون اتهام الشعراء بالجنون يعود الى تمردهم على الواقع، والسلطات، والأعراف، في كل زمان ومكان، فيغدون بنظر المجتمع شاذين، رافضين، "يتبعهم الغاوون".
وفي قصيدة "ذكريات" يطل "المطلق" بأحلى صورة، من خلال كلمة "كل": كل الغنيّات، كتبوها كلاّ، كل الطلاّت.. ويأتي استعمال صيغة الجمع مكملاً لكلمة "كل" في "الغنيّات، الطلاّت، الزهرات، الناس" الخ. ويتذكّر الشاعر طلاّتها، طلّة طلّة، فلا تفوته واحدة، وكأنه كان مرابطاً على مفارق المسافات كلها، يسجّل طلاتها المضيئة.
ولا يتعب الشاعر من عطاء، كما لا تتعب قصيدته التي تعطي اسمها ورسمها وجسمها ودمها و... ثلاث نقا طفي آخر القصيدة، تفضح نهم الشاعر الى العطاء من دون حدود، وكأن ما أعطاه "اسم ورسم وجسم ودم" لا يكفي. يا ألله ما هذا الكرم؟ ما هذا الجنون؟!.
موسيقى الكلمات:
رغم استهتار البعيني بعفويته وتلقائيته، يبرز في قصيدته تناغم موسيقي بين كلماتها يضفي على الوزن رنة اضافية. فالكلمات الأربع "اسمك، رسمك، جسمك، دمك" تشترك في حرفين موسيقيين، السين والميم، قد يكونان أحلى أبجديتنا.. وفي السطر الثالث "كتبوها كلاّ بإسمك" تتردد "الكاف" ثلاث مرات، آتية من أعماق الحلق، في لعبة ايحائية ذكية، وفي "الجاري بمرجة جسمك" يلعب حرف "الجيم" دوراً إغرائياً مفضوحاً، رغم "ينبوع الطهر" لما لهذا الحرف من قدرة على وصف الجسم اللدن كالعجين.
وتشكل القافية "الكاف الساكنة" نهاية منطقية للحسرة المنتشرة في أرجاء القصيدة، وكأن الشاعر يتعمّد ابقاء فمه مفتوحاً في النهاية، دهشة او احتجاجاً.
وتبرز في القصيدة اشكالية الكتابة بالعامية: هل نكتب "ذكريات" أم زكريات" كما نلفظها؟
هل نكتب "الغنيتيها" أم "ل غنيتيها" اختصاراً وتسهيلاً للقراءة؟
هل نكتب "كتبوها" أم "كتبوا"؟ ولماذا كتب الشاعر "كلاّ" وليس كلّها؟
أسئلة كثيرة تبقى بحاجة الى جواب، يشكّل أساساً لقواعد نموذجية للكتابة بالعامية.
**
شربل بعيني، باختصار، شاعر يتصفّى كل يوم، تصهره التجربة، يغمره الحب المتجدد، قد يلومه البعض على غزارة لديه، لكن غزارته مغفورة اذا اقترنت دائماً بالنضارة.
وأذكر أنني قلت، يوم تكريمه، أواخر حزيران الفائت:
"بالعيد شو بهديك يا شربل؟
يا ريت بعدي بهاك الحفافي،
بجبلك معي غربال، تا تغربل،
وما يضل إلا قمحك الصافي".
مبارك قمحك الجديد يا شربل.
**
هوامش: 
1ـ معزوفة حب، ديوان شعر 144 صفحة قطع صغير، سيدني 1989.
2ـ معزوفة حب، صفحة 9.
3ـ المصدر نفسه، صفحة 19.
التلغراف، العدد 1999، 27/11/1989
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق