الكاتب الداهية/ فاطمة ناعوت

نقلا عن موقع 24
   سألني الصحفيُّ، في حوار لجريدة “القدس العربي”: “مَن هو الكاتبُ الداهية؟”
   وأدركتُ أنه يشير إلى النعت الذي وصفتُ به الروائي الأمريكي “فيليب روث” في مقدمتي لروايته “الوصمة البشرية”، التي ترجمتُها للعربية وصدرت قبل عامين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، فيما يربو على ٨٠٠ صفحة. فأجبته بما عنَّ لي، ثم قررتُ أن أكمل إجابة السؤال في مقال، أعلم سلفًا أنه سيكون غير مكتمل أيضًا!
   كلُّ كاتب يستطيع أن ينتزع منك، وأنت تقرأه، كلمة: يا إلهي! - الله! كيف هذا بحق السماء!- لعنة الله عليك!” وسواها من صيحات الدهشة، أو الاستنكار، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل روائي ينتصر عليك فيهزمك ويجعلك تبكي أو تضحك أو تترك الكتاب وتفكر، أو تشرد في سقف الغرفة، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل شاعر يجعلك ترى الأشياء مختلفة بعد قراءة قصيدته، عما كانت عليه تلك الأشياء قبل القراءة، هو بالضرورة كاتبٌ داهية. كل أديب يجعلك تسأل: كيف بنى الرجل هذه الجملة، أو كيف التقط هذه الفكرة، هو بالضرورة كاتبٌ "داهية.
   الكتابةُ فعلٌ عسِرٌ. نبوءة. استشرافٌ للغيب. رسالةٌ غيرُ سماوية يكتبها إنسانٌ راءٍ شاهد وسمع ما لم يره سواه ولا سمعه. أما فيما عدا هذا، فمحضُ كتابات عابرة، يكتبها عابرون، ويمضون، دون أن يشعر أحدٌ بهم أو بما كتبوا. 
   قال نزار قباني مرّة: “إن لم تستطع أن تكون مدهشًا، فإياك أن تتحرش بورق الكتابة”. ولو اعتمدنا هذه العبارة “المدهشة” معيارًا وقانونًا، فانظروا كم من الكتّاب سيدخلون في زمرة “المتحرشين” بالورق الأبيض! 
   تشيكوف، كاتبٌ داهية، حين يحكي لنا عن الحوذي الذي مضى يومَه يبحث عن أُذن تُصغي لقصة ابنه الذي مات. 
   فرجينيا وولف كتابةٌ داهية حين تحكي لنا عن بقعة صغيرة على زجاج نافذة قطار تحاول سيدة مسافرة مجهولة الاسم أن تمحوها بقفازها كأنما تمحو خطيئة قديمة ارتكبتها وتريد ألا يراها الله الذي يراقبُها من فوق غيمة يجلس حاملا صولجان الحكم مثل ملك عجوز. أو وهي تحكي عن الفستان البشع الذي ارتدته في الحفل وهي تظن أنه ساحرٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌ، فجلب سخرية النساء. فراحت تنظر إليهم وإلى نفسها فكان الجميع حفنة من الذباب تتحلّق حول صحن من العسل قبل أن تسقط الذبابات في أسر لزوجة العسل ولا يستطعن فكاكًا. 
   بشارة الخوري كان داهية حين قال: “لو مرَّ سيفٌ بيننا لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك”. 
   إبراهيم أصلان كاتبٌ داهية وهو يحكي لنا عن قطرة من عصير الليمون تسقط على جانب شفاه رجل تحت الإغماء ويحاول أن يلتقطها بطرف لسانه فلا يقدر. 
   نزار قباني داهية حين يصف ارتباك المرأة بين ذراعي حبيبها إذ يراقصها فلا تعرف ماذا تفعل بذراعيها وأين تضعهما بحيث لا تبين لهفتها ولا يختفي حياؤها؛ فتقول: “وحيرتني ذراعي أين ألقيها”، وكان داهية حين لخّص محنة مجتمع فقال: “تطلبين مني، توصيةً للبحر حتى يجعلكِ سمكة/ وتوصيةً للعصافير حتى تعلمك الحرية/ حتى يعترف بأنك امرأة/ حتى يؤجل موعد ذبحك”. 
   ابن الفارض شاعرٌ داهية حين يقول مناجيًّا رب العزة: “أحبُّك حبّين، حب الهوى، وحبًّا لأنك أهلٌ لذاك.”  
   بلقيس، ملكة سبأ، امرأة داهية حين تنظر إلى عرشها الذي جاء به جند الملك سليمان، وسألها: “أهذا عرشُكِ؟”، فقالت: “كأنه هو!”، جملة شديدة الدهاء، فلا العرش هو، ولا ليس هو، حيث يشبه عرشَها في هيكله بينما تبدّلت أحجاره الكريمة على ألوانها. 
   الحلاج حين يصف حلوله في الذات العُليا: “أنا مَن أهوى/ ومَن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا” كان شاعرًا صوفيًّا داهية. 
   أحمد عبد المعطي حجازي حين قال: “هذا الزحامُ، لا أحد!” كان شاعرًا داهية. 
   دانتي إذ يقول في الكوميديا الإلهية في فصل “المطهر” بالقصيدة السادسة عشر: "إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم" كان كاتبًا داهية. 
   شربل بعيني، الشاعر اللبناني، حين قال: “الشعراءُ يتنفسّون برئة واحدة. إن تألّم أحدُهم، تألّم الجميع" كان شاعرًا داهية. 
   “لا تقاوموا الشرَّ بالشر، بل قاوموا الشرَّ بالخير”، “انصرْ أخاك ظالمًا بأن تردّه عن ظلمه” مقولتان داهيتان للسيد المسيح وللرسول محمد عليهما السلام. 
   تشارل ديجول حين قال: “المقابرُ مليئة برجال لا غنى عنهم” كان سياسيًّا داهية. 
   علي بن أبي طالب حين قال:“حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق” أو “لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه” كان خليفةً داهية. 
   وحين قال جون دافيس: "جميعكم تضحكون عليّ لأنني مختلف. وأنا أضحك عليكم لأنكم متشابهون" كان فيلسوفًا داهية. 
   وحين قال إيميل زولا: "إن أخرستَ الحقيقة ودفنتها تحت الأرض، سوف تنمو وتُنبت" كان كاتبًا داهية. 
   أما الذي قال: “إني لأعجبُ كيف يمكن أن يخون الخائنون!/ أيخونُ إنسانٌ بلاده؟!/ إن خان معنى أن يكون/ فكيف يمكن أن يكون؟!” فكان داهية اسمه بدر شاكر السياب.
وأخيرًا، ليت لي مساحة مقال بألف صفحة لأعدد دواهي الكتّاب، ويكتمل مقالي الناقصُ هذا!
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق