لماذا شبّه شربل بعيني فاطمة ناعوت بمي زيادة؟/ ايلي ناصيف

فاطمة ناعوت مع ايلي ناصيف رئيس رابطة احياء التراث العربي في أستراليا
أثنان التقيتهما في غربتي فتركا أثراً لا يمحى، هما المطران عطالله حنا، والشاعرة فاطمة ناعوت، والاثنان مناضلان من الطراز الأول من أجل نصرة الحق والدفاع عن المظلوم. حماهما الله من أعداء الله.
والبارحة أهداني صديقي الشاعر شربل بعيني ديوان "فافي" الذي ألهمته إياه الشاعرة فاطمة ناعوت. وبما أنني أعرف الشاعر والشاعرة، سأكتب عن الأسباب التي دفعته للكتابة عنها وعن "مي زيادة" وعن "جبران خليل جبران".
ما أن تلتقي فاطمة ناعوت حتى تحملك طلتها الى عالم الهيبة، إنها جميلة كـ "كليوباترا"، وساحرة كـ "أفروديت"، والاثنتان تغنّى بهما الشعراء، وجعلوا منهما أسطورتين معصومتين عن البشاعة.
أما حديثها الراقي بمفرداته، ورنة جرسه المموسق، فيجعلك رهن إشارته، وما عليك سوى الانصات الدائم لما تتفوّه به من حكم وأمثال وشعر.
سمعتها تتكلّم عن جبران خليل جبران، وعن "نبيّه" الأشهر بين الكتب، فأحسست أن قبره بدأ يترطّب، وأن الأزهار بدأت تنبت عليه من جديد، وأن الـ "فاطمة" التي أحبّته حدّ الجنون غادر عالمها قبل أن يلتقيها، أو يرسمَها، أو يتغنى بها، فأوكل المهمة الى ابن بلده، لا بل شماله، الشاعر شربل بعيني، فكان للشعر "فافي".
والظاهر أن شربل قد أدرك بحسّه الشاعري المرهف ما يدور في خلد عظيم لبنان والعالم فخصّه بقصيدة عنوانها "جبران ومَيّ وفافي":
"حين أفكّرُ بجبران خليل جبران
يجتاحني الحزن..
أحبَّ مي زيادة
ولم يرمِ شِباكَ بصره المشتاق
في بحيرةِ جمالها.
الرسائلُ التي حملت حبَّهما
عبر البحار،
كان لموزّع البريد الفضلُ الأكبر
في حمايتِها من الضياع..
لولاهُ لما عرفا الحب."

إذن، فمعرفتنا بحبّ "جبران" لـ "مي زيادة" يعود الفضلُ فيها لموزع البريد، عكس اليوم تماماً، حيث أصبح التواصل الكتابي والشفهي والمرئي أسرع من رفّة جفن، وأسهل من جرعة ماء. فشبكة الانترنت حوّلت الكون الى قرية صغيرة، تتنقل في أرجائها وأنت جالس في مكتبك، أو على سريرك، أو وأنت تلاعب هاتفك الذكي. ولهذا تمكن شربل من رؤية "فافي" ولم يتمكن جبران من التنعم بملامح "مي":
"أما أنا..
فلقد التقيتُ "فافي" أسبوعاً كاملاً..
وجهاً لوجه..
ابتسامة بابتسامة..
قصيدة بقصيدة..
وعندما رفعت يدها مودعةً
قبّلتُ تلك اليد."
ومنعاً لأي التباس حول تلك القبلة الأخوية العميقة، يقول الاعلامي جوزاف بو ملحم في مقدمة الديوان: "بأمّ عيني رأيته يقبّل يدها بشدّة، فتذكّرت جبران وفيروز في قصيدة المحبة التي "لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق."
وخوفاً من أن يصيبه ما أصاب "جبران" في غربته، نجد أن شربل يصف مدينة "بوسطن" بالامبريالية، لأنها سرقته من حبيبته "مي" فرمتها بالجنون، ورمته في غياهب الموت، دون أن تدري أن الموت لا يطوي العباقرة:
"تقولُ الحكاية،
ونادراً ما تكذب،
إن الجنون تملّك ميّ
لأنها لم تمتلك جبران..
كان بالنسبة لها تمثالَ إلهٍ
يجب اقتناؤه.
لكن "بوسطن" الإمبريالية
سبقتها إليه،
حجزته في غرفةٍ باردة،
وأرسلته الى "بشري"
جثة هامدة".
نعم، لقد عاش "جبران" في غرفة باردة، رفيقته ريشة مغمسة بدم سعاله، ويراع أثقله المرض، ولوحات تبحث له عن رغيف خبز يقتاته، ليبعد عنه شبح الموت. إنها الغربة، وهذا ما يخيف شربل بعيني، كيف لا، وهو الملقب بـ "شاعر الغربة الطويلة":
مي لم يهمسْ جبرانُ بأذنها
كلمة واحدة..
"فافي" همستِ الكثير،
ولم تهمسْ شيئاً:
ـ خبّرني بالله عليك 
من أي قبسة نور
خلقكَ الله؟
جبران مات حزيناً
أما أنا.. فسأموتُ غيظاً."
رغم لقائه بـ "فافي" وجهاً لوجه، ورغم تقبيل يدها المودعة له، نجد أن غيظ شربل لابتعادها عنه، سيميته كما أمات الحزن "جبران" لابتعاده عن "مي"، وها هو يعلن أمام الناس أجمع أن جنون "مي" وموت "جبران" أسهل عليه من ابتعاد "فافي" عنه:
"أتمنى الجنونَ كـ "مي زيادة.."
والموتَ وحيداً
كـ "جبران خليل جبران"..
شرط ان ألتقي "فافي"
مرّة ثانية..  ولو بالحلم".
هذا هو الحب العذري، الذي لا يعلوه حب، فكيف لا يتغنّى شربل بـ "فافي"، وهي السيدة المصون، والأم الحنون، والشاعرة الملهمة، والمناضلة الشريفة، والصديقة الوفية.. ولو خلقت شاعراً لفرشت القصائد تحت قدميْ "فاطمة ناعوت" التي أدرج أعداء الانسان اسمها على لائحة القتل، لأنها أرادت أن تنقذهم من غيّهم، وأن تهبهم الحياة:
"ما أصعبَ أن يعيش الشاعرُ
في عصر المستحيلات.
ما أصعب أن يتعذّب الشعراءْ".
وما أصعب أن يتعذّب أصدقاء "فافي" لابتعادها عنهم، وانا، والحمد لله، واحد منهم.
ــــــــــــــــــ
ديوان "فافي لشربل بعيني 2013

هناك تعليقان (2):

  1. جميلة حنا ـ كولون ـ فرنسا5:16 م

    مقال أكثر من رائع، يجب ضمّه الى متحف جبران خليل جبران في بشري.. وفقت يا أستاذ ايلي في تفسيرك لقصيدة شربل بعيني الرائعة التي يتغنّى بها بثلاثة أفذاذ هم جبران ومي وفافي، او فاطمة ناعوت، وكم كان شرحك لخوف شربل من الغربة مؤثراً وحقيقياً وشفافاً وفي نفس الوقت جارحاً كدمعة مغترب. ومن لا يعرف فالاستاذ ايلي ناصيف هو رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا التي تمنح جائزة جبران العالمية، وقد حضرت أحد احتفالاتها عندما زرت أستراليا من سنتين.. ولهذا اختار هذا الموضوع وقد وفق في اختياره وشرحه.

    ردحذف
  2. الله يا إيلي!
    أحببتُ نفسي حين قرأت كلماتك عني.
    وأحببتُ شربل أكثر.
    وأحببتُ الشعرَ أكثر وأكثر.
    وأحببتُ المحبة التي وهبتني كل هذا الجمال أكثر وأكثر وأكثر.
    وأحببتُ الله الذي هو المحبة وهو صانع كل هذا الجمال أكثر وأكثر وأكثر وأكثر.
    أجمل ما قرأت من نقد. وكذب أبو حيان التوحيدي حين قال إن الكلام على الكلام صعب، كان أحرى به يقول: الكلام على الكلام صعبٌ وجميل وعذبٌ حين يكتب شاعرٌ عن ديوان شاعر.

    فاطمة ناعوت

    ردحذف