مراسلات أدباء مجانين/ فاطمة ناعوت


٧ أيام  ـ القاهرة
الشعراءُ لا يعترفون بالأوراق الثبوتية وعقود الملكية والمَحْميّات الطبيعية والممتلكات العامة. يلعبون في قصائدهم بالشموس والأقمار والنجوم والبحار والجبال والوديان والأنهار والصحارى، والبشر. يؤمنون بأن الكونَ مُلكٌ خالصٌ لهم، يُهدون ما شاءوا منه، لمَن شاءوا من أصدقاء وأحبّة وأعداء. أليسوا شعراءَ يتبعهم الغاوون، وفي كل وادٍ يهيمون؟!
أثناء رحلتي إلى أستراليا، فكرتُ أن أقضي جزءًا من العشرين ساعة (المُملّة) بالطائرة، في ترتيب ملفات حاسوبي. فعثرتُ على رسائلَ قديمة تبادلتُها مع أديبين كبيرين: "شربل بعيني"، الشاعر اللبناني المرموق الذي يعيش في سيدني/أستراليا، و"كمال العيادي"، المبدع التونسي الذي يعيش بين ميونيخ والقاهرة، وزوج صديقتي الروائية المصرية الجميلة سهير المصادفة. في تلك المكاتبات نلهو بالكون ونُهدي بعضَ مكوّناته إلى بعضنا البعض، في جو من المرح الأدبي الجميل. أفتحُ لكم صندوقي الخاص، وأنشر بعض رسائلنا لما بها من جنون، يلامسُ الإبداع.
***
شربل بعيني: منذ مدة أهداني الكاتبُ التونسي كمال العيادي سور القيروان الشرقي، فأهديتُه بالمقابل دار "أوبرا هاوس"، سيدني. فإذا بي أفاجأ بأن الشاعرة الكبيرة فاطمة ناعوت مغرمة منذ سنوات بالأوبرا هاوس، وتريدها لنفسها، وبما أنها مهداة للعيادي، بدأت رحلة استدراجه للتنازل عنها، وإليكم رسائلهما الجميلة حول ذلك.
***
فاطمة ناعوت، القاهرة في 15 نوفمبر 2005 
صديقي التونسيّ كمال العيادي، فكرت أمس بشيء، ما رأيك لو أهديتني" الباو هاوس" الألماني؟ أحببته منذ درستُ بالجامعة ما تم داخل جدرانه من تنظيرات رائعة، والآن أحتاجه بسبب حنيني للعمارة والهندسة. أظن أن" بول كِلي" زار تونس لأنه يضع عينَه على "أوبرا هاوس" التي في حوذتك الآن، لكنني أعرف أنني أهم منه لديك، وسوف تُهديني أوبرا هاوس أيضًا.
طبعًا هذا لا يلغي إهداءك البحرَ لي. فأنا لا أتنازل عن البحر أبدًا، فانظرْ ماذا ترى. أليس من حق الأصدقاء أكثر من هدية؟ سأدعوك يومًا للغداء في مركب شمس على ضفاف  النيل، ثم أهديك المركب والدلتا الشمالية. ما رأيك؟ هل الصفقة رابحة؟
***
كمال العيادي، مونيخ في  15 نوفمبر 2005 
بنت كلّ الفراعنة، بنت أولمب، فاطمة ناعوت. فإنّي أهديك" شربل بعيني" وأستراليا كلّها. لا تخفْ يا شربل، لن يطول صحوى وسأستردّ كلّ شيء كعادتي. سآتيكِ حبّا وكرامة يا فاطمة على ضفاف النيل. وسأدخل القاهرة ممتطيًا صهوة بغلة من الجنّ أملكُها. كما فعل ابن الغضنفر في حديث القنوط. تماما أيّتها الشاعرة  الكبيرة التي لا تغلط بالنّحو والصرف. فراح الشّعراءُ يتقضربون رعبًا منكِ ومن سكاكين مقالاتك. حبّي وأُخوّتي وصداقتي وقلبي الذي لا يكاد يخون.
***
فاطمة ناعوت، القاهرة في 17 نوفمبر 2005 
أيها القيروانيّ كمال العيادي، قمْ على صحوٍ وبِعْ بعض الضوء لأحد عمالقة الأساطير ولا تنمْ إلا بعد أن تمهر عقد الإهداء بتوقيعك كيلا تسترده. لم أكن أعرف أنك تسترد هداياك بعدما تُفيق! أهديتني "شربل بعيني" وأستراليا. فأما شربل فسوف تسترده بعدما تصحو كما وعدته، فهنيئًا له بانعتاقه. وأما أستراليا فما كان لي فيها من رغبة سوى "أوبرا هاوس"، تلك القوقعة التي خبأتُ فيها أحلامي منذ عشر سنوات. لكن الشرير شربل بعيني قد أهداها لك قبل أيام، وكم حزنتُ لذلك!  لكنني فكرتُ أنني ربما أستطيع أن أغافلك وأخطفها.  فهل كل المقدمات السابقة تكفي كيلا ألحف في طلب الباو هاوس؟ أم أنك قد تهورت وأهديته لسواي؟اعترفْ فورًا ولا تخف شيئًا، فإن سيوفي وخناجري وسكاكيني  في غمادها الآن.
***
 كمال العيادي، ميونيخ 18 نوفمبر 2005:
 بنت روح النّيل فاطمة ناعوت. الباو هاوس هديّة من حبيب. والهدايا لا تُهدى ولا تُباع ولا تُقايض. خذي القيروان مبتورة. فرّقتُ منها شطر سورٍ وستّة مساجد من 368 مسجدًا، وحصيرًا قديمًا وفناء مسج البامري وقبر عزيز لدي ومئة متر من مقبرة الجناح الأخضر بها قبور، سأورثها لـ ياسمين ابنتي.  كلّ ما تبقى أهديه  لك حلالا. ولا تشطّي في طلب الباو هاوس. خذي موسكو أيضًا. خذي بالمرّة كلّ مدن تونس. إجلدي إن شئت كلّ مَن شئت من الكبار بها، كما أفعل كلّ ليلة. خذي بغلة الأصفهاني، وهي ملكي بصكّ حقيقي. خذي ثلاثة أسابيع أعدك فيها بتقوى نصوح.. خذي اللون البنّيّ، وضمّيه للأزرق الذي أهديتك إيّاه من قبل. اطلبي ذلك من شربل،  سأقبل مقايضته. ماذا تقولين؟
***
شربل بعيني، سيدني أستراليا،  16 نوفمبر 2005 
أخي القيرواني الجميل كمال العيادي. رسائلك لي ليست جدولاً صغيراً على صفحتي. إنها نهر الأمازون بطوله وعرضه، وستروي عطش الكثيرين في زمن شحّت به مياهُ الحب. دار الأوبرا هاوس في سيدني أهديتها لك، فلا داعي للمقايضة مع شاعرتنا الكبيرة فاطمة ناعوت. فتّش لها عن مكان في القيروان، شرط أن لا تقترب من سورها الشرقي، فلقد أصبح محمية "بعينية" عالمية. مسكينة فاطمة تهدي بيوتها الشعرية للعالم أجمع، ترسم بلوحاتها النادرة مساكنَ أجملَ من الأوبرا هاوس. ومع ذلك تريد أن تشلحك إياها! يا أخي، سأفض المشكل، وأهديها ديواني: "معزوفة حب".
***
وحلّ "شربل بعيني" المشكلةَ، وأهداني ثلاثة جبال بمدينة كتومبا بأستراليا اسمها: "الشقيقات الثلاث". وفوق هذا الكثيرَ الكثيرَ، من الحبّ.


هناك تعليقان (2):

  1. انطوني ولسن ـ سيدني9:24 ص

    يا ليت كل الأدباء لهم جنونكم لارتاح الناس من هوس العقلاء.
    أنطوني ولسن

    ردحذف
  2. ماجدة اسكندر ـ سيدني9:42 ص

    الان عرفنا سرّ اهتمام شربل بعيني بضيقتنا فاطمة ناعوت لما كانت في سيدني، هناك هدايا جبلية وأسوار قيروانية وأوبرا هاوسات، وما شابه بينهما. قيل الكثير عن اهتمام شربل بفاطمة وفاطمة بشربل ولن يعرف أحد حقيقة الأمر إلا اذا قرأ مقال شاعرتنا فاطمة ناعوت: مراسلات أدباء مجانين. والله مجانين وإلا لما أهدوا دولاً لبعضهم البعض
    ماجدة اسكندر ـ سيدني

    ردحذف