الثورة في شعر شربل بعيني من خلال: مجانين/ جوزيف بو ملحم

عندما يقال شربل بعيني في أستراليا يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد.
فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنياً ذكر أحدهما دون الآخر.
خمسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة.
هذا هو شربل بعيني وكفى.
أو هكذا يعتصر البحر في كوب صغير!
لا.. فنحن لا ندّعي اجتراح المعجزات، ولا نهوى "كار" التجنّي، ولكننا على ضوء فهمنا لشعر البعيني، سوف نلقي الضوء على نقطة واحدة، وهي "الثورة"، من خلال الطبعة الثانية لديوانه "مجانين"، ونترك لغيرنا الاهتمام بالنواحي الأخرى.
الثورة عند البعيني:
من الواضح تماماً أن شربل بعيني لا يكتب الشعر للشعر، إنما هو فارس يمتطي صهوة القصيدة ليبلغ مأرباً ما.
الشعر عنده غائي وهادف. وهو وسيلته الفضلى للتخاطب والآخرين، لقول رأيه في الأمور، لنبذ ما يمج، وتعضيد ما يستحبّ. لذا نجده ناقماً على المتاجرين بالدين والطائفيّة من رجال دين وسياسة، داعياً الناس إلى التعقّل والتبصّر وعدم الانقياد خلفهم:
وحقّ السما والأرض مغشوشين
ومتل شي قطعان منقادين
لرجال سمّوهن رجال الدين
لأهل السياسه الكذّابين النصّابين
وثورة البعيني غائيّة لا غوغائيّة، فهي ما هدمت إلاّ لتبني.. لهذا نجده يرسم للمتديّن صورة صوفية بعيدة عن التزمت الأحمق، والتعصب البغيض، فالدين عنده ملك لله، ومن يغزل مشلحه من خيوط الحب يصل الى الله، ما هم نوع صلاته.
وتنبلج من ثورة "بعيني" تباشير عقيدة أموية "نسبة إلى أمة"، وأمويّته نقيض التناقض والتنافر والتشرذم، ويبدو هذا واضحاً كم في:
صاروا إذا فرحت قبيله ينوّروا
تلال القبيله التانيه
وصاروا إذا حزنت قبيله يدوّروا
الحزن بقبيله تانيه
أو:
وبدل العشيره
يقدّس الأمه
ويوحّد الكلمه
وما يعود يقدر جيش يحتلّو
فتضامن الأمة ضروري لوحدة الوطن ومنعته.
ويترجم "بعيني" أمويّته بقصيدة إلى خالد كحّول، الجندي اللبناني، الذي دافع عن رفاقه الجنود المسيحيين على أحد الحواجز قائلاً: نحن جنود لبنان، وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتم قتلهم فاقتلونا جميعاً.
وكلامه هذا أحرج المسلحين فتركوا الجنود.
ولبنان هو ملك اللبنانيين وليس ملك دياناتهم.. وتجّار الطائفيّة لا يؤمنون لا بالانجيل ولا بالقرآن ولا بالتوراة، إنما وجدوا الدين أقرب الطرق إلى الثروة والزعامة، فاستغلوه وحاولوا تطييف الشعب، وصلبوا الوطن:
فوق حناكن الرخوه
وصفى التعايش كومة نفايات
أما ذروة النقمة فتتجلّى في:
تا نحسبك شي يوم زقّفت لزعيم
لازم بسرعة تقصّ صابيعك
مثل هذا الكلام كم نحتاجه في عصرنا حيث أعمى أعيننا حب الزعيم، وشلّت بصيرتنا عبادة الشخصيّة، كما أننا كبّلنا أبعادنا الوطنية بسلاسل طائفية أو مناطقيّة أو زويعميّة "من زعيم صغير"، فباتت مصالح الزعماء مطالبنا القومية والوطنية.
التخبيص:
التخبيص هو تلك المطبّات الصغيرة التي يقع فيها دعاة الثورة فيخفت وهج ثورتهم.
هو هذه المنزلقات التي ينزلقون فيها فيعيقون المسيرة.
وهو تلك الخطايا العرضية التي يقترفونها فتكاد تقضي على ثورتهم.
والتخبيص عند شربل بعيني غبار عالق بجسده من ثوبه القديم، الذي ما انفكّ يحاول نفضه عنه كليّاً. وهذا التخبيص هو على أصعدة أذكر منها واحد فقط، والذي هو موضوع هذه الدراسة.
التخبيص على صعيد الفكرة الثوريّة:
عندما تجد الشركات الصناعية المشهورة أن احدى آلاتها لا تقوم بأداء جيّد تقول عنها: إنها آلة صنعت بعد ظهر الجمعة. وفي هذا إشارة إلى أن العمال كانوا يفكرون بعطلة "الويك ـ آند" أكثر من الاعتناء والاهتمام بانتاج آلة ممتازة.
ونأسف كثيراً أن نجد في ثورة "بعيني" رماداً ذرّ بوجه اللهيب، أو ثرى عفّر محيا الثريات اللامعات.
ونأسف، ونكاد نقول لا نصدّق أن من حمل على تجّار الطوائف "والسياسيين الكذابين النصّابين"، الذين إذا صفّقت لهم يوماً:
لازم بسرعه تقصّ صابيعك
ثم نراه يلتمس لهؤلاء السماسرة مغفرة، عندما يقول:
معقول عندن عذرهن معقول
عطيهن يا رب المغفرة
لا يا شربل.. التقط عقلك يا صاح، ولملم شذرات منطقك، ولا بأس إن تخلّيت قليلاً عن وجهك السموح الغفور الرؤوف الرحوم، واعلم أن "التماس" الغفران لمجرم هو الاجرام بعينه، فكيف المغفرة بذاتها؟
وجريمتك الثانية انك وأنت الأموي الثائر تستعمل كلمة تعايش:
وصفّى التعايش كومة نفايات
التي وردت في "مجانين" بطبعتيه الأولى والثانية. وأسفي هو أنك بعد عشر سنوات من الحرب لم تنتبه إلى إبدال هذه الكلمة. واعلم، يا صاح، إن النفايات ليست قذرة قذارة عبارات التعايش والوفاق، وترتيب البيت الداخلي، والميزات والامتيازات والغبن والحرمان.. إلخ.
وإياك، إياك أن تقول أن لبنان أمة تتعايش، فالتعايش جمع قسري لأفراد متخاصمين متنافرين، وكلمة تعايش دسّت في صحافتنا وقاموسنا اليومي من قبل أعداء لبنان، أعداء كل لبنان. فالأمة التي تتعايش هي أمم مبعثرة، تحفر لحدها بيدها، واللبنانيون، يا شربل، أمة تتسابق إلى خلق لبنان عظيم. وأنت واحد من هذه الأمة، فلا يجزعنك السواد، ما هو الا غشاوة تنقشع حالما نتعاون معاً على دحر أعداء لبنان. ويا شربل لا أرضاك تصوّر الوطن مقتولاً:
يا وطني يا زينة الأسامي
من يوم ما قتلوك..
فالثائر، لا يعرف اليأس، ولا يترك جذوة الأمل تخبو. ولبناننا بحاجة إلى كلمتك سيفاً يقطع أوصال أعدائه، ومنارة تنير ظلمات التائهين من بنيه، وناراً تحرق أصابع المتاجرين فيه.
والآمال كبار عليك.
صدى لبنان ـ العدد 495 ـ 3/5/1986
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق