في رياض شربل بعيني/ محمود شباط


حظيت بثمانية دواوين شعر وردتني من الشاعر والأديب والمربي شربل بعيني وهي: "مراهقة"، "لبنان و بس" ، "كبارنا"، "عالم أعمى"، "الغربه الطويله" ، "معزوفة حب"، "مجانين" و"ألله ونقطة زيت" . إضافة إلى كتاب "شربل بعيني بأقلامهم 8" وصلني من الأستاذ كلارك بعيني، وكتاب "كلمات سريعة عن شربل بعيني" من الدكتور علي بزي.
من مغتربه في أستراليا بعث بكتبه إلى مغتربي في السعودية بناء على طلبي بعدما تـَشـَكـَّـلَ بيني وبين حادي عيس الأدب المهجري حبلاً سرياً روحياً يربط بيننا في منفيينا الطوعيين الطيبين، تمخـَّض عن صداقة حـَيـَّة نابضة باتت وستبقى مبعث فخر واعتزاز لي.
فردت الكتب الثمانية وتذوقت نتفاً من حلوها محتاراً بأيِّ "أحلى" أبدأ. رأيتني أقتفي نغمات شعر شربل المموسق الوامض الهادف وأردد بيني وبين نفسي بيت شعر لمعروف الرصافي : ماذا أقول بروضة عن وصفها / يعيا البيان ويعجز التعبير.
قطفت ما طالته يدي. بالكاد ما طالته يدي . بدأت بقراءة ديوان "مراهقة" المترع بالنضوج. أرهفوا السماع معي لشربل بعيني في قصيدة "كرمال عينك" يشكو لمحبوبته "الأصحاب والأحباب الذين تركوه حين قـَلَّ ماله" ثم لينتفض بكبرياء وجرأة وتصميم نافضاً غبار اليأس والإستسلام وليكمل مسيرة المداميك الواثقة:
"و ضِلـَّيـْتْ جـَاهـِد تـَا رْجـِعـْتْ بـْنـِيـتْ
مَجـْدي الـْ فـِقـِدْ وتـْحـَسـَّنـَتْ حـَالـِي
وْ يـَا حـَيـَاتي كـْـتـير شـُو انـْحـَبـَّيـْتْ
و ْ شـُو كـِـتـْرِتْ الأصْحـَابْ مـَع مـَالـِي" .
في البيتين الأخيرين شيء من رد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على أحدهم حين سئل عن عدد أصدقائه فأجاب بأنه لا يعرف في حينه كون الدنيا مقبلة ولكنه سوف يعرف حين تـُدْبـِر.
في قصيدة "دياب الشعب" يستل شربل صوراً من كهوف لاوعينا فيـُظـَهـِّرها ويعرضها بتولاً حيية فاتنة طاغية الجمالية :
"وكـِلّ عـُمـْرا الشَّـمـْسْ سَاعـَاتْ الغـُرُوبْ
تـِتـْحـَمـَّمْ بـْمـَيـِّة سـَواقـِيـنـَا"
رأى شربل الشمس تستحم عارية في مياهنا. وطالما استحمت في "سواقينا" فهي ستستحم في بحرنا.أغمضوا أعينكم وتـَخـَيلوا انعكاس قرص شمس الغروب تسبح على صفحة ساقية تنساب من نبعة جبلية في غسق ربيعي. وكمياه الساقية سنسير مع شعره لنعبر إلى روضة مجاورة نراه غـَيـْرِيـّاً حتى حدود التضحية وقرباناً على مذبح الوطن يرنم بشجن:
"وما هـَمّـنـِي لـَوْ صَارْ جـِسـْمـِي رْمـَاد
" الـْ بـِيـهـِمـّنـِي .. مـَا يـِنـْفـتـح قـَبـْري
إلا بـْبـِلادي .. ويـِنـْكـتـبْ فـَوقــُو
مـَات تـَا يـِفـْدي شـَعـْبْ و بـْلادْ... "
بتلك التموجات الوجدانية العابقة بالطيوب والفداء والتعلق بالأرض والحنين إلى الجذور تعرض لنا شاشات شربل البانورامية تفانيه وعشقه لشعبه وتربة بلده .
ريبورتاج آخر موجز ثلاثي الأبعاد نزفه قلم شربل بعيني يلعن فيه طواويس تسىء استخدام السلطة وتخون الأمانة :
" الـْعـَامـِلْ نـَاطـُورْ الأرْض والـْكـَرْمـَات
وبالـسـِّرْ عـَمْ يـِسـْـرُقْ دْوالـِيـنـَا
اسـْتـِقـْلالـْـنـَا ، الـْ مـَا لـِحـِقْ يـِخـْـلـَقْ .. مـَاتْ "

وعن المتظللين بعباءة الدين يقول :
والـدِّيـْنْ أقـْرَبْ دَرْبْ لـِلـثـَرْوِة
هـَاتْ إيـْدَكْ هـَاتْ يـَا خـَيـِّي
بـْإيـْدَكْ وإيدي الـسِّـحـْرْ مـْـتـْخـَبـِّي"
شـَخـَّصَ لنا شربل الداء ووصف الدواء : "السحر المتخبي" بأيدينا.
وفي قصيدة "احترق لبنان" يتسامى خط الرسم البياني في مهجة شاعرنا: "عيب إني إتركو". حيث يفضل أن يقسو على أعز الناس وألا يقسو على لبنان . وفي قصيدة "فخر" ينفخ في جمر المروءة حاثا أخوته في الوطن :
"كـِنـْتـُو فـَخـْرْ ... كـِنـْتـُو فـَخـْرْ.. شـُو اللـِّي حَصَلْ حتى انـْقـَلـَبـْتـُو عَارْ؟
بعتاب المُحِبِّ يـُذكـِّرهم بتلك البقعة الضوئية - الإيقونة التي غزاها الفرس وقضوا على المدن-الدول الفينيقية عام 600 قبل الميلاد، ثم عـَبـَرَهـَا اليونان فالرومان فالأمويين فالعباسيين فالمماليك والترك ومحمد علي بين العامين 1832 و 1840 ، والفرنسيين إلى أن ولجنا في نفق استعمار بعضنا. ألم يقل لنا شربل سابقاً "اسـْتـِقـْلالـْـنـَا ، الـْ مـَا لـِحـِقْ يـِخـْـلـَقْ .. مـَاتْ " . دَمْدَمَهَا قلم الشاعر بأسف وسنسمعه ينبر خيبته في قصيدة "مش رح صدق":
"مـْشْ رَحْ صَدّقْ ... مْـشْ رَحْ صَدّقْ
إنـُّو بـْلادي صَارِتْ غـَابـِه
وإنـُّو شـَعـْبـِي تـْحـَوّلْ طـَابـِه"
في البيت الأول نحسُّ بمرارة خيبته اللامتناهية حين يكرر " مـْشْ رَحْ صَدّقْ..... مْـشْ رَحْ صَدّقْ" . يكررها على طريقة الشاعر صامويل تايلور كوليريدج في رائعته "The Rime of the Ancient Mariner" حـيـن يـُكرر كوليريدج "Day after day, day after day " للتأكيد على دقة توصيف الحالة.
في البيتين الثاني والثالث يرثي شربل بعيني مجد الشعب الذي ابتكر الأبجدية وتحوّله إلى "طابه" في ساحة مباحة تتقاذفها أقدام المصالح الخارجية والأنانيات المحلية.
وآن يستيقظ الرجل-الطفل في ذاكرة شربل سنسمعه يرنم بشجن في قصيدة "ميمتي" حين يتذكر أمه- أمته – ضيعته - الوطن :
"وبـْتـْذكـَّرِكْ يـَا مـَيـْمـْتـِي مـَوْقـِدْ
بـْـتـْذكـَّرِكْ تـَنـُّورْ"
هل ارتويتم من حنينه وحنانه ورهافة مشاعره وذكرياته العتيقة للموروث؟
فلنسترح إذن على إفريز طيني تحت شجرة توت قرب التنور ونراقبه مشفقاً على الشباب الذين جرفهم تيار الطائفية في قصيدة "خانوا الوطن" التي تذوب عباراتها وتتقطر في هذه اللوحة الموشاة بالأسْـوَد والأسـْـوَد:
"و هـَ الـشـَّـبـَابْ اللـّي تـْرَبـُّوا
تـَا حـَتـَّى يـْـقـُودُو الأمـِّه
خـَانـُو الـْوَطـَنْ وتـْخـَبـُّو
خـَـلـْفْ الـدِّيـْنْ الـْ مـْشْ مـَحـْبـُوبْ".
وفي قصيدة "يمين ويسار" تتصاعد صرخة شربل كفراً باليمين وباليسار معاً ويلح على وقف النار التي تلتهم الجميع :
"أنـَا مـَا بـْفـْهـَمْ يـَمـِيـنْ
أنـَا مـَا بـْفـْهـَمْ يـَسـَارْ
أنـَا بـْفـْهـَمْ إنـُّـو الـنـَّارْ
لازِمْ تـُوقـَفْ مـَهـْمـَا صَـارْ" .
أين هي آذان السياسيين؟ لا لنمسك بها ونشدها بل لتصغي وتلبي ما يطلبه شربل باسمنا ونيابة عنا.
في قصيدة " تـْبـَرَّعْ " يتجلى إعلاء شاعرنا لانتمائه الوطني بأروع حلله :
" تـْبـَرَّعْ ..
مـُـشْ هـَمّ مـْسـْـلـِمْ كـِنـْتْ .. أو كـِنـْتْ نـِصْرانـِي
لـْبـْنـَانْ مـُـلـْكـَـكْ إنـْتْ .. مـَا بـْتـِمـْـلـْـكـُو دْيـَانـِه"
وفي قصيدة "قلبي وطن" يناجي شربل بعيني معشوقته- معشوقتنا بيروت، ويشكو لها بإيقاع شجي يترقرق كجدول في أرض بكر حيث ينبجس التغزل والعتب في آن:
"بـَيـْرُوتْ يـَابـَيـْرُوتْ يـَا مـْديـْـنـِه
يا مـْزَيـَّـنـِهْ ... ومـْـشْ نـَاقـْصَه زِيــْـنـِه
تـْـنـَعـْشـَرْ سـِـنـِه عـَـمْ بـْحـْـلـَمـِكْ بـْاللـَّيـْلْ
قـَوْلـِكْ أنـَا مـَكـْـتـُوبْ عـَجـْبـِـيـنـِي
عـِيـشْ عـْمـْرِي بـْالـْهـَجـْرْ والـْـوَيـْـلْ
إشْرَبْ دمـُوعـِي وآكـُلْ سـْنـِيـنـِي؟؟؟!!!!"
سوف نرى نجم الوطنية مـُشـعـّاً وضيفاً دائماً في سماء شعر شربل. ولكننا سنلاحظه يجود بوميض "شربلي" ناصع الوجدانية في قصيدة "خالد كحول" :
"جـْنـْدي لـْبـْنـَانـِي مَجْهُولْ
مْأكـَّدْ مَجـْدُو لـْفـَخـْر الدّيـْنْ
تـْجـَسَّدْ بـِخـَالـِدْ كحولْ
هـَالنـِّسـر الشَّامـِخْ عـَطـُولْ".
سوف نستأنس بصوت حادي عيس الأدب المهجري يحدي بقصيدته "تاريخ هجرتنا" ليخاطب بلده من البعيد البعيد عبر صرخة في برية الغربة ليبوح للبنان بأنه ابتعد عنه بالجسد فقط :
" أرْضـَـكْ فـْرَاشـِي ... وجـَوَّكْ لـْحـَافـِي
وهـَمـَّـكْ صَـلـِـيـْبْ مـْكـَسـَّرْ كـْتـَافـِي".
ويغوص شربل بجرأة وإقدام وعدم خشية من لوم لائم في قصيدة "طاووس" ليمرغ أنف المتجبر اللامبالي بالوطن وبشعبه وأرضه ومستقبل أجياله وينعته بـ "أزغر من الأزغر" وأقل من ذرة غبار على قدم طفل معدم.
وسوف نحبه ونحب شعره أكثر في قصيدة "بـْحـبـَّـكْ" حيث يبوح الشاعر لوطنه بأنه لم يتوقف عن حـبـِّه رمشة عين، فهو يحبه "من كانون لكانون" أرأيتم ؟ من شهر كانون إلى شهر كانون . حب متواصل دون أدنى فاصل زمني.
وفي قصيدة "شياطين" ترتفع قامة شاعرنا بإباء وعلمانية صادقة ليـُعـَرِّي غول الطائفية :
"وبـَعـْدُو بإسـْمْ الدّيـْنْ
عـَمْ يـْخـْـلـَقْ سـْلاطـِينْ
شـَكـْلا شـَكـْـلْ إنـْسَانْ
وفـِعـْلا فـِعـْـلْ شـِيـْطـَانْ" .

يصطحبنا شربل بعدها في استنهاضه المغتربين وتذكيرهم بأن المال ليس كل شيء فيقول في قصيدة "فيق يا شعبي" :
"ارجَعـُو يـَا أغـْـلـَى مْحـبـِّـينْ
بالـْغـِرْبـِه مْـنـِبـْـقـَى مْسَاكـِينْ
مـَهـْمـَا يـْغـَطـِّيـنـَا الألـْمَاسْ".
في قصيدة "آخرتها شو" يرعد صوت شاعر الغربة الطويلة دفاعاً عن حاضر ومستقبل أطفال بلاده فيغدق عليهم من حبه ويتمنى لهم أن ينامو بأمان كبقية أطفال خلق الله ، ويفيقوا على عالم يشع بالنور : نور العلم، نور الحرية، نور الأمن والأمان، ونور عدم الخوف مما يحمله الغد :
"وآخـْرِتـْهـَا شـُو ؟!
وأطـْفـَالـْـنـَا الـْ مـِنْ حـَقـُّنْ يـْنـَامـُو
ويـِحـْـلـَـمُو بـِالـنـُّورْ" .
قلم شربل بعيني مصباح ومهماز وسيف ومنارة في آن واحد، يستمد طاقته من مناجم حبلى بالماس والزمرد والياقوت ومنارات للأجيال في الحاضر والمستقبل.
قطفت من الأزاهير ما طالته يدي ولكني على موعد مع ما لم أصله بعد. أولها ديوان "الله ونقطة زيت" الذي فيه من الصوفية الحداثية ما يشد من يغوص في البحث عن لآلئه . وإلى لقاء مع "الله ونقطة زيت" .
الخبر في 24/04/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق