شربل بعيني شاعر الشعراء

ـ1ـ
شربل بعيني أحب الشعر باخلاص فأحبه الشعراء باخلاص .شاعرغنى وجدانه كلمة فأرقص الأرواح وأبكى الملوك .كتب باللغتين العربية الفصحى والانكليزية فأغنى رصيدهما بذهب الكلام . كتب أيضا بالعربية العامية فعشقته حكايات ما قبل النوم وكاغاه جمال هدوء المهد . شربل بعيني باختصار شاعر الشعراء . فيه وله ومنه أقول

يا شعر خلي بالشعر عيني
تنقل من جنينه على جنينه
شربل قطف عنقود وجدانو
من كرم الله والعنب زيني
وصارالحلم يدلف ع حيطانو
حكايات رجح مجدها العينه
ووقف بوج الموت انسانو
تاصار شعرو عالعمر دينه
شربك بعيني الشعر خيطانو
وما انفك الا بشربل بعيني

كثر هم الذي كتبوا عن الشاعر بعيني ولكن صديقه الحميم المهندس رفيق غنوم كان الأقدر على قراءة مابين سطور مراسالاته ولقاءاته فكان كتابه "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" خبز الحقيقة وزبدة الكلام. منه اقتطف ما حصل مع المرحوم الشاعر الزجلي حنا / جان رعد فاستمتعوا واطربوا وقولوا معي لا زال الشعر بألف خير

ـ2ـ

جان رعد: زمانك طفل.. يا سابق زماني

عام 1989، جاء الشاعر الزجلي الشهير جان رعد إلى أستراليا، لإحياء عدّة حفلات زجليّة، ولكنّه، ولسوء الحظّ، تعرّض لوعكة صحيّة مفاجئة، أدخل على أثرها المستشفى، فما كان من الشاعر شربل بعيني إلاّ أن عاده، واطمأن على صحته، دون معرفة سابقة، وعرض عليه كل ما يمكن للأخ أن يعرضه على أخيه، فأكبر جان بادرته الإنسانيّة هذه، وتوطّدت بينهما أواصر الصداقة.
ولد جان رعد في بلدة "لبعا" الجنوبيّة، ويعتبر من أشهر شعراء الزجل اللبناني، اشتهر بقفشاته الشعريّة الساخرة، والمفرحة في آن معاً، فلقبّه الشاعر الكبير سعيد عقل بشاعر الفرح
كان أحد أعضاء جوقة زغلول الدامور، وجوقةعائلة الزجل اللبناني، وله ديوان زجلي صدر عام 1987،اسمه هادا الباقي.لدى خروجه من المستشفى، أهدى صديقه شربل هذه القصيدة،التي كتبها وهو يعاني الألـم، ومع ذلك، جاءت آية في الروعة
ـ1ـ
يا شربل.. في بشر عن سوء نيّه
بكسر وفتح لعبوا بالهويّه
الـ فَتَحْهَا قال شاعر مجدليّا
الـ كسرها قال شاعر مجدليِّه
في بنت مراهقه كتابك وجدها
بقلبك عايشه.. وشعرَك عبدها
الصبيّه الـ حبّت الروح وجسدها
ما بدها ناس خلقاني لعددها
ما بتفرق التوبه من الْخطيِّه
ـ2ـ
جمال الحبّ من أللـه وجمالو
وكمال الكون من ضلع اللي شالو
ما بين الغنج والسحر ودلالو
في عندك حبّ مستعبد لحالو
وفي عندك حبّ عبد الجاذبيّه
ـ3ـ
يا شربل.. إنت في قلبي ولساني
زمانك طفل.. يا سابق زماني
المحبّه بذمّة الشاعر أمانه
لا إنت بعصر عايز قيس تاني
ولا بعازه لخوتا عامريّه
ـ4ـ
وبتاني كتاب تفكيرك تخلّى
عن الـ صلاّ.. وما عارف ليش صلاّ
بنقطة زيت.. شعب الـ شاف أللـه
لأللـه بقول: شو خالق حياللّـه
يا رزق أللـه ع عصر الجاهليّه
ـ5ـ
رجعت وشفت لَكْ كتاب تالت
بقلبو شي ألف مجنون فالت
مجانين الدني حكيت وقالت:
أمـم من كبر حظّ العلم زالت
قبل ما يزول حرف الأبجديّه
ـ6ـ
وكتاب الرابع: الغربه الطويله
الهدف من هالمهمّه المستحيله
بشعرك ثور.. والثوره فضيله
الوطن شمشون والحاكـم دليله
وشعب مقصوص بمقص الضحيّه

ورغم مرضه، وتحذير الأطباء له من بذل أي مجهود جسدي أو فكري، اشترك جان مع زميليه العملاقين أنيس الفغالي وأسعد سعيد بحفلة وداعيّة، فطلب من شربل أن يعرّفها، وأن يقدّم الفرقة للجمهور. فقدّمها بقصيدة مثيرة، سأنشر منها الأبيات التي أجبرت رئيس تحرير إحدى الصحف المهجريّة على الإستقالة، وكان أخونا قد رفض رفضاً باتاً نشر القصيدة، إذا لـم تحذف منها بعض الأبيات. وبالطبع، فقد رفض شربل حذف أي كلمة منها، وطالب بعدم نشر زاويته الأسبوعيّة، عندئذ تدخّل صاحب الجريدة لمصلحة القصيدة وحريّة التعبير، وبدلاً من أن تنشر في إحدى الصفحات الداخليّة، أطلّت كاملة الإشراق على الصفحة الأخيرة من الجريدة، فما كان من رئيس التحرير إلاّ أن قدّم استقالته. وها أنا أنشر الأبيات التي طالب بحذفها
شو صايبو أللـه
خلق الدني كلاّ
وقلَّل الشّعَّارْ؟
الظاهر بمعجنتو
جرّب تا يتسلّى
كاس العرق تلاّ
وما حسّ باللي صار
إلاّ بتاني نهار
من بعد ما كنتو

وما أن تطاير زجلنا الشعبي في سماء الغربة، ورقصت الصالة على أنغام الأكف وهيصات المغتربين، حتى التفت جان إلى شربل وقال له ارتجالاً
بسيدني الشعر مقبل
ولصوبنا مقبل
بمواسمو مسبل
حبّو غني بالمعرفه البيدر
وعبَّى الكتب أفكار
وهالمحبسه اللّي إسمها المنبر
نحنا لها زوّار
ورهبانها الشعّار
وقدّيسها: شربل

عندئذ دبّ الحماس بالعملاق الزجلي الآخر، الشاعر أسعد سعيد، وارتجل قصيدة تنتهي جميع أبياتها بكلمة (بعيني)،إذا قرأناها بإمعان، ندرك أن الكلمة الأولى تعني عين الماء التي نستقي منها، والثانية العين التي نرى بها، والثالثة عائلة بعيني، والرابعة كفّة الميزان

شربل.. يا عود مألّه الدوزان
فجّرت نبع العاطفه بعيني
شعرك زرع أفراح بالأحزان
شعرك بقلبي.. شعرك بعيني
للزهر مرج وللعطر خزّان
بينطلق من شربل بعيني
ولولا بيحطّوا للشعر ميزان
الدنيّي بعينِه.. وشربل بعينِه

وهذان العملاقان، كما هو معروف، كانا من أقدم وأشهر أعضاء فرقة زغلول الدامور الشهيرة، لذلك أجد أن لا غضاضة من نشر الأبيات التي ارتجلها على الهاتف، كبير عمالقة الزجل الشاعر جوزيف الهاشم، الملقّب بزغلول الدامور

يا شربل الـ بالفكر عم تبقى
بحفلة وداع منطلب نشوفك
منحب نقشع بيننا حبقه
ما بينّكر بالكون معروفك
يا طبقة الـ ما فوقها طبقه
نحنا بسيدني كلنا ضيوفك
ومنريدك بحفلة وداع تكون
ضيفنا تا تكمل الحلقه

وما أن وصل جان إلى وطن الأرز الخالد، حتى بدأت رسائله تتفتّح كالأزهار بين يديّ شربل، وبدأت محبّته تشع كالشمس، وتتضوّع كالأريج
أعزّ الأعزّاء، يا أغلى صديق صادق صدوق، شربل بعيني..كما انتظرت أنت تأمين وصول الرسالة، كذلك أنا..أطبع القبلات الأخويّة على وجنتيك، علّها توصل حرارة القلب إليك، وتدبّ فيك حرارة الرجوع، ولو زيارة، إلى هذا الوطن الذي أطفأ نار الحرب، واشتعلت فيه نار الإشتياق لـمن هو أعز وأوفى رسول هاجر، وحمل حرف الكرامة، في بلاد كان عنها الحرف أبعد من الكواكب عن بعضها البعض.هذا أنت يا شربل.. جئت إلى تلك الجزيرة الكبيرة كبرالطموح، والبعيدة بعد الأمل، لتقول لها: أنا من بلد ليس له مسافات، عرضاً أو طولاً، ولكن له الحرف، وها أنا أحمله إليكِ، لا للمقايضة، ولا للبيع، إذ حاشا أن يباع حرف المعرفة على يديّ أصحاب المعرفة. إنه هديّة لكِ، ولكل عشّاق الأبجديّة التي منها ولدتُ
الرسالة لـم تنتهِ بعد، ولكنني سأتوقّف عن نشرها، لأنه لا يحق لي الإفصاح عن خدمة بسيطة، قدّمها شربل له، رغم مطالبته بنشر الرسالة بعد موته:"فيا ليت كتابي هذا ينشر بعد موتي للأجيال القادمة، لتتعلّم الوفاء من الأجيال الماضية". ومن غير العمالقة يعترفون بالفضل؟.. فجان رعد رفض أن يكون ثالث الذين تكلّم عنهم الأديب العربي الكبير جرجي زيدان، عندما قال بما معناه: الناس ثلاثة، الأوّل يرد جميلك، والثاني يتجاهله تماماً، أمّا الثالث فيقتلك كي يقتل جميلك. لذلك طالب بنشر كتابه إلى شربل، كي تتعلّم الأجيال القادمة الوفاء من الأجيال الماضيّة. فهل من وفاء أسمى من هذا الوفاء؟ وهل من محبّة أكبر من هذه المحبّة؟ وهل من تواضع يضاهي تواضع هذا العملاق الزجلي المبدع؟.. بالطبع لا. ومن مصر، بلاد المجد الفرعوني والعربي، أرسل جان هذه الرسالة إلى شربل، وأحب أن أنوّه أنها كالرسالة السابقة بدون تاريخ:"في ذكرى آلام السيّد المسيح، مع آلام الوطن الأم، وعذاب الإنسانيّة اللبنانيّة، وبعد مضي سنتين على فراقنا، وعندما سمحت لي الظروف، جئت بهذه الرسالة لأطبع قبلاتي على وجنتيك المملوءتين ببراءة الأطفال، ووداعة الحمام، وعنفوان الشباب، وخيال الإلهام والعبقريّة، يا أعز شاعر وصديق في ديار الإغتراب، عندي، وبقلبي. أكتب إليك هذه الرسالة من مصر العربيّة، من مدينة الإسكندريّة، لأخبرك عني أولاً، فبعد أن تركت سيدني، ذهبت إلى أميركا، وبدأت رحلتي في واشنطن، وكانت لي أمسيات شعريّة، لا أقول موفّقة، بل هكذا كانت. ومنها انتقلت إلى فلوريدا، وهناك حصل حادث، نقلت على أثره إلى المستشفى، سببه تعب في القلب، فأشار عليّ الأطباء أن أركّب بطاريّة تساعد على انتظام دقّات القلب، فحملت حالي، وعدت إلى بيروت، ودخلت المستشفى، وأجريت العملية بعد أن وافق الأطباء في بيروت على استشارة أطباء أميركا.والآن، والحمد للـه، الصحّة جيّدة ولا ينشغل لك بال.ضمنه قصاصة من جريدة الأنوار، التي كتبت عنك بتاريخ وصولي من عندكم إلى بيروت. كما أخبرك أن الكاتبة الصحفيّة والشاعرة الزجليّة القديرة حنينة ضاهر، التي تكتب بالأنوار الصفحة الثقافيّة، هي التي طلبت منّي أن تكتب عنك".
في الأول من أيلول عام 1991، أي بعد ثلاث سنوات من تركه أستراليا، أرسل جان هذه الرسالة المعبّرة والمؤثرة لشربل:"حبيب القلب، وحبيب الأحبّاء الشاعر شربل بعيني باسم الكلمة التي حملتها إلى ديار الإغتراب، وكنت أحد القدامسة الذين انطلقوا وتلمذوا وبشّروا بالأبجديّة الشاعريّة، ولا يزالون على عهد المعرفة والوفاء لبلاد أوجدت تلك الحروف منارة تنير الكفيف ليبصر طريق المعرفة.فيا أخي بالكلمة والعطاء..ما يقارب الثلاث سنوات، والبعد بيننا لا يزال ينهش مسيرة لقائنا، ويسد الطريق برّاً وبحراً وجوّاً، وصرت أشعر كأن الأرض توقّفت عن دورانها، واستسلمت للعناء والتعب، تاركة الأرواح تسير بالأحلام في عيون الفناء، وبيقظة الأمل تجمعنا، وبذاكرة الماضي نعيش، كأننا على بساط الريح ننتقل نقلة الرجاء باللقاء.فيا قلبي أكتب، ونُب عنّي بما يوحيه لك الفكر والوحي،على صفحات الورق المنسوج شحماً، ومسطّراً بشرايين القلوب.أكتب ولا تخف. أكتب لمن يستأهل الكتابة. أكتب لمن يمصّ ذلك المداد بشفتيه، ويطعّم به تلك الألسنة التي لا تعرف إلاّ مرارة الحياة، كأنّها تبشّر بموت المحبّة، ودفن الصداقة، متجاهلة أن لشربل أخاً لا يزال يؤمن بالأخوّة، وشاعراً لا يزال يؤمن بشاعريّة القداسة إسماً وفعلاً
للـه درّك يا جان على هذا الوفاء النادر، وعلى شاعريّة القداسة التي تتمتّع بها أنت، وتظهر جليّةً في كلّ كلمة كتبتها، خاصّة عندما تكلّمت عن "تلك الألسنة التي لاتعرف إلاّ مرارة الحياة، كأنّها تبشّر بموت المحبّة ودفن الصداقة".كلّنا إلى زوال يا جان، ولكننا سنبقى كلاماً على ورق، أو أفعالاً يراقبها الناس، فطوبى لمن لوّن الكلمة بأفكاره، وطوبى لمن زيّن الحياة بأفعالـه. وهنيئاً لك ولشربل لأنّكما امتلكتما عظمة الكلمة وطوباويّة الأفعال.

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف11:58 ص

    Well done Mr Baini

    ردحذف
  2. غير معرف2:50 م

    ألف شكر لابن بلدي الدكتور إياد وألف شكر لموقع مرمريتا

    المهندس رفيق غنوم

    ردحذف