فواتح شهية لكتاب الحلوة عن بعيني/ محسن ادمون يمين



بالثناء والتقدير للجنة الثقافية في رعية السيدة- مجدليا أستهل كلمتي هذه لإصرارها على إعادة التواصل الهادف إلى نشر العلم والمعرفة ، برغم حصار المحن والصعوبات ، وتداعيات الحروب القريبة والبعيدة ، والتباعد الإجتماعي الذي إستوجبه الكورونا ، ولا يزال .

وكأني بالرعية قد أبت ألا يمر كتاب "شربل بعيني بين الفصحى والعامية" ، وهو  إبن مجدليا التي يجري حبها ، وحب لبنان ، في عروقه مجرى الدماء ، بقلم ، بلمعان قلم الدكتور مصطفى الحلوة ، دون أن تحرك ساكنا .فكل الموانع تتهاوى ، وكل المحظورات تزول ، أمام واجب رعاية مجدليا لعهد الأمومة ، والإفتخار ، والمودة ، لمن تأصلت جذوره في تربتها ، رغم الهجرة المديدة ، والبعاد . فكيفك بالشاعر شربل بعيني الذي لم يترك شمس يوم تغيب عليه في مغتربه دون أن يذكر بانه إبن " القندلفت" سركيس بعيني ، وبحنينه إلى رائحة الأهل ، وذرات التراب ، وعبق الصعتر ، وأجراس الكنائس .

كما تنحسر المحاذير أمام ضرورة إبداء  واجب الإحترام للدكتور مصطفى ، وتقديره حق قدره . فالناس هنا ، والزيتون ، يرفعون القبعات إجلالا له ، وهو يحل في ربوع مجدليا متحدثا ، وموقعا إصداره الذي جمعنا الآن ، على أن تضعه ، بإعتبارها مسقط رأس شربل ، من اليوم فصاعدا ، تحت وسادتها . لكبير علمها بأن الزمان لا يجود بمثل شربل كل يوم . ولعلمها ، فوق ذلك ، بأنه لا يتوفر لنتاج إبنها البار الذي غادرها ، عام ١٩٧١ ، ويوازي عدد مؤلفاته عدد أعوام إبتعاده عنها ، ناقد يشهد له ، في مضمار النقد ، بطول الباع ، وعلو الكعب . كما يشهد له بجلد التمحيص ، ودقة الملاحظة ، واناة العالم .

فأي كتاب يضعه الدكتور مصطفى تحت مجهره يحظى بدقة ساعة سويسرية   وعناية ممرضة إنكليزية ، وصبر حرفي طرابلسي في سوق النحاسين . ما يجعل اي مراجعة من مراجعاته تلاقي أصداء إيجابية ، حال خروجها إلى النور ، وتلقفها من قبل المهتمين ، لما يمتاز به من قوة بحث ، وسلامة تحليل ، ورصانة مقاربة ، وطلاوة بيان .

وعندما يكون الأمر متصلا بشاعر مهجري كشربل ، غادر لبنانه في عمر الشباب الطري إلى أوستراليا ، فكانت له الدار بدل داره ، طوال النصف قرن الفائت ، وكان له ، هو فيها ، من الدواوين الحائرة بين الفصحى والمحكية ، والمجلية في كليهما ، ما يملأ رفا زاخرا بالإبداع من مكتبة ، فان الفضول للوقوف على ما يحتويه العمل ، وما خلص إليه المؤلف ، يبدو  مضاعفا . لأنه قلما يردنا عن الشعراء والكتاب المهجريين ما يروي عطشا للتائقين إلى المعرفة ، وتذوق حلاوات الأدب .

وأنت ما ان تأتي على مطلع الكتاب الذي سنتحلق حول مؤلفه بعد قليل حتى يتبين لك حالا  بأنه ليس من الصنف الذي تستطيع أن تقلب صفحاته على عجل ، وتسرع في قراءته ، إسراع متسابق . أو من النوع الذي  يسهل عليك إجتياز  المسافة بين دفتيه بأقصر ما يمكن من الوقت .فالكتابة المتأنية تقابلها قراءة لا تقل تأنيا . إستيعابا لما تم تفكيكه من نصوص ، كما تفكك الصدور العامرة للرمان ، وتفتت حباته بالعين قبل اليد ، وتلذذا بشرب ما جرى إعتصاره .

هذا هو الحال مع الدكتور مصطفى في دواوين بعيني الأربعة المسلط عليها الضوء في الكتاب : " أحبك" ، " مجانين" ، " نجمة الشعر" ،و"خماسيات حب" ، وفي مراجعته المدرجة في الثنايا لكتاب الدكتورة بهية أبو حمد "شربل بعيني منارة الحرف" . وهو الذي كابد ، أسوة بشربل ، وما زال يكابد ، عذاب الحرف .

كما هو الحال مع شربل بعيني الذي يشكل الكتاب الذي صدر في اوستراليا سنة ٢٠٢٠ غيضا من فيض أعماله الجديرة بالإبراز والتنويه ، والمكملة بعطرها ، لعطور الأدب المهجري الذي قيل ، بحق، انه " ملأ عيون الأدب بالنور"  و" خلع عن اللغة وقوالب التعبير أكسيتها القديمة" . أولا من خلال " الرابطة القلمية"، في المهجر الأميركي الشمالي ، منذ عام ١٩٢٠ حتى وفاة عميدها جبران خليل جبران ، عام ١٩٣١ . ثم ، من خلال " العصبة الأندلسية" ، في المهجر الأميركي الجنوبي ، منذ العام ١٩٣٣، إلى ما بعد العام ١٩٥٥ بقليل .

فشربل بعيني يواصل ، شانه شأن سائر الشعراء والكتاب المنتشرين بعد النصف الثاني من القرن العشرين ، إلى يومنا هذا ، تسطير فصل إضافي من الفصول الأدبية المهجرية التي تختلف بإختلاف بيئة النشأة ، والإنتشار . برجحان كفة للمحكية ،  على حساب الفصحى . رجحان " جاز معه - بلغة الدكتور مصطفى- إلى العالمية" ، بعد ترجمة ديوانه "مناجاة علي" ، وهو يالمحكية ، إلى الإنكليزية ، والفرنسية ، والإسبانية ، والأوردية . وليس ذلك بجديد على شعرنا العامي الذي نهض كل من جبران خليل جبران وأمين الريحاني لترجمته إلى الإنكليزية ، قبل زهاء القرن . وغالبا ما كانت هذه الترجمات تنشر على صفحات مجلة " العالم السوري" لصاحبها سلوم مكرزل .

في أي حال ، فالدكتور مصطفى يسلم بجمالات المحكية التي تضارع جمالات الفصحى . وقد إستخلص ، إثر خوضه لغماري شعر بعيني ، أن شربل بقدر ما أبدع في فصحاه المراعية للأوزان الشعرية الكلاسيكية ، أبدع في محكيته . وهو لا يدع هذا الشعور بتساوي الجودة في قريحة بعيني يفارق القارىء ، سواء فاضت في هذه الوجهة ، أم تلك ، وسواء حين يتأجج كحمم البركان غيظا على ما آل إليه وضع لبنان ، أو حين يندفع كالسيل الهادر في نقمته على الحكام ، أو على ضياع القدس من أيدي العرب ، أو حين ينبري ممجدا المدن والعواصم العربية ، أو حين يرى نفسه محمولا على أجتحة الحنين إلى بلاده، أو حين يتقلب على جمر الحب . فشربل بعيني لا يزال ، في سبعينه ، يغني تحت شرفة الحب . كما لو أن السطر الأول من ديوانه الأول ، لم يجف حبره بعد : ديوان " مراهقة" ، زمن التنانير القصيرة ، والشعور الطويلة . وهو سيظل حتى السطر الأخير من ديوان الحياة . والحق ليس على الطليان ، إنما  " على النجوم التي - على حد قول صديقه الراحل الشاعر نزار قباني، وملهمه-تهرب من خيمتها لترقد على مخدته" ، فحكاية الحب ستستمر . ولا فرار من الشعر الا بالشعر  .

وأخيرا ، إذا كنت قد قصرت في إيفاء كتاب الدكتور مصطفى حقه ، فحسبي أنني قد بسطت أمامكم فواتح شهية لإلتهام صفحاته .


محسن ا. يمين

نص كلمة ألقيتها في حفل توقيع كتاب " شربل بعيني بين الفصحى والمحكية" للدكتور مصطفى الحلوة في قاعة رعية السيدة- مجدليا .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق