اللغة الشعرية والادراك الحسي في معمار القصيدة الغنائية لدى الشاعر شربل بعيني/ نزار حنا الديراني


شربل بعيني ونزار حنا الديراني ـ بغداد 1987
بداية ، نشير إلى أن جمالية النسق اللغوي – عند الشاعر شربل بعيني سواء أكان نسقاً وصفياً أم سرديا، لا يتأتى من بداعة التشكيل اللغوي فحسب، وإنما من بداعة الرؤى المستفيضة التي توَلِدها مخيلته الشعرية حين تكون في حركة الأنساق؛ وما تثيره من مؤثرات ترفع وتيرة المتخيلات الشعرية جاذبية، فالشاعر يشتغل في مجاميعه الشعرية ( التي فاقت 40  مجموعة من بينها قصائد ريفية ، ظلال ، اوزان ... ) على اللعب الشعري في إخضاع اللغة الى مراياه الشعرية من خلال الاحتفاظ باسلوب مرتبط بلغته الشعرية المصبوغة بطابعها الشخصي التي تتضافر مفرداتها وصورها فيما بينها مكونة مشاهده الشعرية المتلاصقة بروح الوطن والغربة دافعا بذاته الشاعرة المعبرة عن ذات الإنسان لتصور مشاعره التي تمتاز بالتدفق العاطفي والخلجات وكل الانفعالات كاشفا عن أصالته الشخصية لترتقي الى مصاف ذات الشعراء الكبار في التراث العربي ، لذا شق الشاعر لنفسه أسلوباً يختلف عن أسلوب معاصريه من الشعراء اللبنانيين. فهو يضفي على معطيات الفكر ثوبا موضوعيا وعقليا بعيدا عن تحميل المفردة بشحنات تفوق طاقتها من خلال الرموز والأساطير والتزاوجات لتكون مطابقة قدر المستطاع للواقع ، ولكنه – في أغلب الأحيان- يضيف إليها – بكثافات متنوعة- عناصر عاطفية قد تكشف لنا أناه ، وقد تغيرها ظروف اجتماعية مردها حضور أشخاص آخرين ، أو استحضار خيال المتكلم لهم كقوله في قصيدة بيروت من مجموعته أوزان:

بيروتُ يا بَيْروتُ.. لا تَتَرَدَّدِي
قولي: أحبُّكَ.. كَيْ يُعانِقَني غَدي

لَوْ تَعْلَمينَ كَمْ يُؤَرّقُني النَّوى
لَفَتَحْتِ حُضْنَكِ واخْتَزَلْتِ تَشَرُّدي

أَمْضَيْتُ عُمْرِي كالرياحِ مُشَرَّداً
لكنَّ وجْهَكِ كانَ دَوْماً مَقْصَدي

وبما أن النص هو محصلة تفاعل المتخيلات الشعرية ، فإن ما يحفز اللغة الشعرية أنها فضاءات متخيلة أولاً؛ وإيحاءات نصية مموسقة ثانياً ، فالنص الشعري الذي جاء كنتيجة لانعكاس أنفعلاته الوجدانية وما يجيش في صدره من عواطف ، يستمد قيمته الفنية من طريقة صياغته وائتلاف مكوناته التعبيرية ليفيد من خصائصها الإيحائية ليؤدي أقصى ما لديه من طاقات جمالية ليسمو في التعبير الناتج عن مخيلة الشاعر شربل وذوقه كونه لصيق بالإحساس بالنفس الإنسانية ولا يستطيع أن يتحرر من أحاسيسه في التعبير عن مكنونات نفسه ، بما ينعكس ذلك كله على نتاجه الإبداعي . فيقول في قصيدته بغداد من مجموعته الشعرية اوزان :

أحْبَبْتُ وَجْهَكِ.. وَالْغَرامُ حِكايَةٌ
مِثْلَ الدِّماءِ تَدَفَّقَتْ بِمَفاصِلي

لَوَّنْتُ بِالشَّفَقِ الْجَميل شَوارِعاً
خِلْتُ الشَّوارِعَ أمْسَكَتْ بِأنامِلي

كَمْ مِنْ قَصائدِ حُبِّنا غَنّى الْهَوَا
وَتَشامَخَتْ فَوْقَ الرُّبوعِ مَنازِلي
إن التماثل والقافية يعتمد كلاهما على تكرار الأصوات المتشابهة في لغة الشعر فتتفاعل مستويات الصوت والمعنى،ضمن منظومة الشعر الغنائي الذي يمتاز كغيره من أنماط الشعر كونه لا يقتصر على الجانب المادي وحده ، لأن عاطفته تتجاوز الأحساس بالواقع، من خلال تشظيها وألتحامها مع عواطفنا مما يظفي على قصيدته طابع تأثيرها في المتلقي . حيث تُشكّل الذَّات لديه حافزَ انبنائها داخليًّا، فالذي يتكلم في القصيدة إنّما هو الشاعر نفسه وأناه المجروحة والّتي ترتبط بـ"ملفوظٍ واقعيٍّ" الذي ينشدّ إلى تلفُّظه من خلال الذّات الحقيقية والأصلية والتي هي الأنا الجمعي (الكل) كقوله لماذا أغني؟ من مجموعته ظلال :

غَريبٌ!.. 
وَخَلْفَ ارْتِحالي ارْتِحالْ
وَغَصَّةُ صَدرٍ، 
وَحُلْمٌ بِبالْ..
وَأُمٌّ تَحوكُ أُلوفَ الْحَكايا
عَساها تَنالُ الْبَعيدَ النَّوالْ
وَتِلكَ الحَبيبَةُ.. سِتُّ الصَّبايا
يُعَانِقُ قَدَّهَا طيبُ الدَّلالْ
فَكيفَ أُغَنِّي؟.. 
وَكُلُّ الْبَرايا
تَرُشُّ بِعيدِها زَهرَ الوَبالْ
فَكَيفَ أُغَنِّي؟.. 
وَبُومُ المَنايا
نَعيقُهُ شُؤْمٌ.. 
وَبَدءُ زَوالْ
وَأَرضي تَغوصُ بِبَحرِ الرَّزايا
وَشَعبي يَعُدُّ حُبوبَ الرِّمالْ؟
علينا أن ننظر إلى هذا الشعر من حيث التَّمادِي في الخيال والتَّصوُّراتِ داخل اشتغاله كنصّ لغويّ وجماليّ، لنُدرك مدى أهمية الموسيقى والتي هي جوهر الغنائيّة لياخذ الإيقاع وضع الدالّ العضوي والجوهري بالمعنييْن الفكري والجمالي ليكون مركز الثّقل .
وبما أن الشعر الغنائي يختصّ بالأحاسيس، فهي مادّته وموضوعه الأساسي ، ومن خلالها تمكن الشاعر من التعبير بوضعيّة خيالية أساسية للأحاسيس المعبَّر عنها، كي يوَصل قصيدته إلى النموذج المطمئنّ للحوار الداخلي المأساوي ذلك الفاصل من الخيال الّذي بدونه يستحيل تطبيق مفهوم المحاكاة على الشعر الغنائي، كما يرشدنا إلى ذلك جيرار جينيت . كما يتجلى في الشِّعْرِ الرُّومانِسيِّ الاندياحُ في عالم الطبيعة الواسع، والركون إلى أحضانها واستشعار حنانها وجمالها وروعتها ومناجاتها.  وهذا ما عبر عنه أيضا في قصيدته البحر الأزرق من مجموعته قصائد ريفية:
أَمْسِ،
كُنْتِ هُنَا يَا حَبِيبَتِي،
ما الَّذِي أَبْعَدَكِ عَنِّي،
وَأَنْتِ الضَّوْءُ لِعَيْنَيَّ الزَّائِغَتَيْنِ؟
قُولِي..
هَلْ خَلْفَ الأُفُقِ أُفُقٌ آخَر؟
وَالْبَحْرُ الأَزْرَقُ،
هَلْ غَزَتْهُ مَرَاكِبُ الزَّهْرِ؟
وَهَلْ طَافَتْ عَلَى وَجْهِهِ
بَطَّاتُ الْمَوْسَمِ الْحَالِي؟
عَمَايَ جَعَلَنِي كَثِيرَ الْفُضُولِ،
فَاعْذُرِينِي.
فالكتابة على ذاتيتها هي استحضار للآخر المنفعل عن طريق جعل أناه تنطق  بعد أن تقمطت الانا الجمعية ... الشاعرشربل من خلال كتاباته يعي واقعه الموضوعي ولعل هذه الانفعالية الواضحة، دعته على اختيار مفردات بسيطة ومألوفة قادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة ، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، التي إما ان تكون علاقة تنافر وخصام، واما ان تكون علاقة توافق وانسجام ، وذلك حال العديد من الشعراء الذين صاروا يتجرعون الأحزان نتيجة لما لاقوه في وطنهم الأم او في المهجر عبر كلمات جريحة تشدو بموسيقى الحسرة ما ألم بهم من مفارقات استدعت هي الأخرى تتابع الإيقاعات الموسيقية على اوزان أحبار أقلامهم الممزوجة بدماء الأبرياء مما جعلت الشاعر شربل أن يمتطي قلمه ركبا لمواساتهم وتعزيتهم لينعي القلوب المليئة بالزفرات المقموعة والبيادر الجميلة التي تفوح منها عيق الطفولة، كما يقول في قصيدته مزرعة الشوف من مجموعته اوزان :
غلاف كتاب نزار حنا الديراني عن شعر شربل بعيني

هذا أنا، يا شوفُ، هل ندمٌ
يكفي، لأنصبَ فيكَ أقبيتي

آتٍ كما الأطفالُ من سفرٍ
متلهّفاً، والريحُ أشرعتي

إنّي "بُعَيْنِيُّ" الهوى أبداً
أودعت فيها قدسَ أتربتي

يا "مجدليا" سجّلي فرحي
إلاّ لها لم تعلُ قبّعتي
نصوصه التي تحمل غنائية الحزن . الحزن الذي انكرته شواطئ الفرح وهي ذاتها التي عانقت المأساة حد أنفجار الأفكار وتشظي الخلجات وتشذر الأضلع ما بين جهات الاِختزال والترحال اللاهث صوب قيامة اليقظة ، اليقظة التي تحاول الرجوع للحلم الذي يعاود الاِحتراق لكن من دون جدوى الأمل .
نجد ان الشاعر شربل يميل الى استخدام المفردات ذات العلاقة الوطيدة بحياته اليومية، خصوصا عندما يتعلق الامر بالحضور المكاني، اذ تمتزج المفردات بلغة اكثر مباشرة، وقربا للفؤاد، مما يسمح للصور الشعرية بالتوالد والانصهار بتجربة الشاعر، وكما في قصيدته من قال؟ من مجموعته ظلال :
مَنْ قَالَ:
دِجْلَةُ
وَالْفُراتُ
يُغَذِّيانِ بِماءِ طُهْرِهِما الْعِراقْ
كَيْ تَشْمَخَ النَّخلاتُ
كَالأَبْطالِ؟
هَلْ فِي الْكَوْنِ أَبْطالٌ
كَأَبْطالِ الْعِراقْ؟
الزَّارِعِينَ الرُّوحَ
آياتٍ
وَراياتٍ
عَلَى شَطِّ الْعِراقْ
الْحارِقِينَ الْعُمْرَ إِيماناً
لِكَيْ يَتَطَيَّبَ فِيهِ الْعِراقْ..
وَالسَّاكِبِينَ دِماءَهُمْ
كَيْ تَمْحُوَ الآثَامَ
عَنْ وَجْهِ الْعُرُوبَةِ
.. وَالنِّفاقْ
وهكذا في قصيدته خريفي من مجموعته قصائد ريفية:
خَلَعَ الرَّبِيعُ عَبَاءَتَهُ وَمَشَى،
بَعْدَ أَنْ دَفَنَ بَقَايَاهُ فِي قَعْرِ ذَاتِه.
كُلُّ الْمُرُوجِ تَأَوَّهَتْ،
وَتَأَهَّبَتْ لِلسَّيْلِ الْجَارِفِ
الآتِي مِنْ مُحِيطَاتِ الْغَيْمِ الأَسْوَدِ.
خَيِّمِي عَلَيَّ..
فَخَرِيفِي يَتَلاعَبُ بِي،
يُثِيرُ أَعْصَابِي،
وَيَجُرُّنِي نَحْوَ الْمَجْهُولِ.
مُدِّي يَدَيْكِ وَأنْقِذِينِي.
إن هذا الوعي الإدراكي الذي يملكه الشاعر شربل بعيني بشأن العلاقة بين الشكل والمضمون واللغة لدليل على خبرة معرفية تتماثل تماما مع تأريخه الشعري الطويل الذي يمتد لعشرات السنين والتي من خلالها أطلع على تجارب المئات من القصائد الشعرية التراثيىة والمعاصرة مما مكنته من تطوير تجربته الشعرية ومرجعياته المعرفية و الثقافية ، ومعرفته أهمية التلاحم بين الشكل والمضمون في خلق الشعرية وخصوصا في القصائد التي تميل الى التراث شكلا ، فلا شعرية للشكل بمعزل عن المضمون ، ولا شعرية للمضمون بمعزل عن الشكل ، فكلاهما متلاحمان في اللغة الشعرية، لخلق مثيراتها الجمالية .
فإن ما يعزز شعرية المتخيل لدى الشاعر بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية المراوغة فالإحساس بالجمال، والوعي الجمالي بالأشياء هو ما يمنح الشعرية لدى الشاعر شربل خصوصيتها الفنية ومداركها الشعورية العميقة . كقوله في قصيدته حرجي الشّمالي من مجموعته قصائد ريفية
إِحْمِلْنِي أَيُّهَا الضَّوْءُ إِلَى رُبُوعِ بِلادِي،
فَأَنْتَ أَسْرَعُ مِنَ الصَّوْتِ،
وَأَخَفُّ مِنَ الْهَوَاءِ.
مُشْتَاقٌ أَنَا لِتِلْكَ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ،
الَّتِي زَرَعْتُهَا بِأَشْجَارِ الزَّيْتُونِ الْخَضْرَاءِ.
قُلْ لِي، بِرَبِّكَ،
هَلْ شَاهَدْتَ حُرْجِيَ الشِّمَالِيَّ؟!
وَهَلْ أَعْطَيْتَ الْحَمَامَ بَعْضَ أَغْصَانِهِ؟!
أَنْتَ أَنَانِيٌّ أَيُّهَا الضَّوْءُ،
لأَنَّكَ تَسْتَأْثِرُ بِالسَّلامِ لِوَحْدِكَ.
ختاما اقول جاءت تجربة الشاعر شربل متميزة على الصعيدين الفكري والفني ، فهي من ناحية الشكل تحمل نضجا فنيا واضحا في الصورة المعبرة الناضجة ، واللفظة الموحية ذات القدرة على التأثير، وطرق وجدان المتلقي ، بعيدا عن تعقيدات اللغة ، وانغلاق رموزها ، ومن الناحية الفكرية ، تكشف عن حالة تأجج نفسي يحمل ملامح تجربة اغترابية واضحة إذ ان تناول العلاقات والانظمة اللغوية في النص، يكشف عن قدرة شعرية ، أنتجت مجموعة من السياقات اللغوية ذات التراكيب الخاصة ، التي تنطلق من حالة توتر نفسي، وتأزم وجداني، تسيطر على الشاعر، وتبدع ما يناسبها من الالفاظ . 
إن الحضور المكثف لجملة هذه العناصر من الرويّ والقافية مرورا بالتفعيلة ساهم مساهمة فعالة في تأسيس شعريّة القصيدة الغنائية لدى الشاعر شربل بعيني، وخلق فضاء تتزاوج فيه العناصر بهدف تأسيس إيقاع القصيدة . وقد استطاع الشاعر بفضل براعته أن ينسج خيوطا من التّواصل الإبداعي مع الظّواهر الشّعرية القديمة و نحتها على نحو جديد في إطار من التّراكيب الحديثة، إ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق