قصائد غسان محمد منجّد مغسولة بالضوء والضباب

كنت أعتقد أنني أعرف كل شعراء المهجر، وأنني قرأت لهم، بعد أن أهدوني مؤلفاتهم، ولكنني وجدت نفسي مخطئاً عندما اقترب مني شخص لم أره من قبل، ودون أن ينبث ببنت شفة، قدّم لي أربع مجموعات شعرية هي:
1ـ عيون من جليد
2ـ حين بكت السماء
3ـ ايقاع العطر
4ـ قصائد مغسولة بالضوء والضباب، التي أتخذتها عنواناً لمقالي هذا.
وبينما هو يخبرني عن معرفته بأحد أقربائي في مجدليا، كنت أنا أفتش عن اسمه المنشور بحرف صغير ورفيع على أغلفة الكتب: غسان محمد منجّد.
أجل، انه ابن أحب مدينة الى قلبي: طرابلس، وليس هذا فحسب فمن طبع وكتب مقدمات الكتب هو أستاذي وصديقي الياس عشّي، الذي كان أول من أمسك بيدي على طريق النشر، يوم كنت "أدبدب" بغية الوصول الى عالم الكلمة.
والظاهر أن غسان منجّد أراد أن يبهرني بعدد مؤلفاته، وأن يجعلني عاجزاً عن التفضيل بينها، فالطباعة التي نفذتها مطبعةCap  في طرابلس، كانت أكثر من رائعة، وكيف لا تكون رائعة ومن يشرف عليها هو الاديب الكبير الياس عشّي، الذي لا يهمه، منذ التقيته في مدرسة الآباء البيض في القبة عام 1967، إن لم تخنّي الذاكرة، إلا نشر الكلمة، ودعم أصحابها.
والملفت حقاً، أن غسان منجّد، ولد في العام والشهر اللذين ولدت فيهما أنا، شباط 1951، والملفت أكثر أنه سبقني بيوم واحد الى هذه الحياة إذ انه ولد في التاسع من شباط، بينما تأخرت أنا الى العاشر منه.
وها هو قلم الياس عشّي المبدع، يعرّفنا بغسان بكلمات سريعة وشاملة:
ـ على مدارجها، أي طرابلس، لعب غسان، ونما، وتعلّم، ولبس عباءة الشعر، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية من مدرسة الآباء البندكتان في القبة، وبعد انتسابه لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية في بيروت، ولعامين فقط، اضطر غسان بعدها لقطع دراسته الجامعية، ومغادرة لبنان هرباً من جحيم الحرب الأهلية التي لم ترحم أحداً، قاصداً أوستراليا التي تحولت، مع سنوات الغربة الطويلة، الى وطن آخر لغسّان.
بربكم، اليست هذه قصّة كل واحد منا، بلى والله؟
ومن ديوانه الاخير "حين بكت السماء" اختار هذه القصيدة بعنوان "خيمة الغرباء":
أنا الدورة السريعة
في دائرة الفناء.
أنا العزلة الأخيرة
في خيمة الغرباء
أسرج خيل سمائي بريش هدهدة
وأقطف منها رعشة نهد.
**
استحق حلماً انتشر من ثدي غزالة
أستحق رقصة من صحوة صنوبرة
مَن أنا من هذه الومضة
التي تنادي بصيرة؟
وتفرش بقطن الكون نشيد القداسة؟
**
تناديني الصحوة فتأتي الرؤيا
وتمس بصيرتي
بقمح النور.
**
قصيدة قصيرة سريعة ولكنها معبّرة، يكتنفها الألم والخوف، وتجرّحها الغربة بأظافرها السامة، وتجبر القارىء على التأمل، والتعمّق، ليصل الى أعماق الشاعر، الى رهبته، ويأسه، وقنوطه في غربة أعطته الامان ولكنها لم تعطه مسقط الرأس، ورائحة الأهل والجيران والرفاق، فصاح بأعلى صوته:
أنا العزلة الأخيرة
في خيمة الغرباء.
وراح يستنجد بالشعر كي يحصل على حلم او رقصة:
أستحق حلماً... أستحق رقصة.
هذا ما يريد في صحوته، كي "تأتيه الرؤيا، وتمس بصيرته بقمح النور".
غسان محمد منجّد شاعر طرابلسي لبناني، عرف كيف يتغلّب على غربته بالشعر، وعرف كيف يفرّحنا نحن أيضاً بالشعر. فله ولأستاذنا الكبير الياس عشّي كل الحب والتقدير.
شربل بعيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق