وداعاً يا جورج جرداق

غيّب الموت الشاعر والأديب اللبناني الكبير جورج جرداق،
فخسر الأدب الراقي أحد أهم أركانه، 
وقد خص الادب المهجري بالتفاتة كريمة، 
سجلها التاريخ بأحرف من ذهب.. 
ففي عام 1992 كرّمت الجاليات العربية في أستراليا الشاعر شربل بعيني على ديوانه "مناجاة علي"،
وكان من بين المشتركين بالتكريم العملاق الراحل جورج جرداق، 
فقدّم جائزة تقديرية للشاعر بعيني، 
أرفقها بهذه الكلمة الخالدة:
في مثل هذه المناسبة مجال واسع لكلام كثير. غير أني سأوجز، ففي الإيجاز ما ليس في الإسهاب من خفّة الوطأة على القارىء أو السامع.
عظماء الخلق الحقيقيّون هم عظماء كل زمان ومكان. وهم شرف للإنسانيّة كلّها، لا يستطيع احتكارهم أحد من هنا أو هناك، لأنهم كالضياء الذي ينتشر على الجميع.
ولأن الإنسانيّة في النتيجة واحدة، ولأن التفريق بين قوم وقوم، أو بين طائفة من البشر وطائفة، هو عمل هامشي لا جوهري، وآني وطارىء على الحقيقة وعلى الخصائص الإنسانيّة بأصولها ومجاريها وغاياتها، فإن سيرة كل عظيم في الفكر والخلق والمسلك، أياً كان زمانه ومكانه، وأياً كان قومه، ومهما حاول هؤلاء أو هؤلاء احتكاره، هي ملكي وملكك وملك الناس، كل الناس، البيض والسود والصفر والمجاورين لك والغائبين عنك وراء البحار السبعة.
وفي طليعة عظماء الفكر والخلق والسيرة، منائر الأزمنة، هداة الناس جميعاً: الإمام الأعظم علي بن أبي طالب.
وإذا كان الجمال السامي لا يستشفّه فيراه ويهواه إلاّ صاحب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصافي، والذوق الرفيع.
وإذا كانت القيم الكبرى لا يدرك معانيها فينتشي بعبقها ويحيا لها وفيها إلاّ من أودعه اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء على السواء.
وإذا كان أصحاب الجمال السامي، والقيم الكبرى، لا يستظلّهم ويدفأ بوجودهم، فيطمئن من خلالهم إلى خير الوجود ونعمة الحياة الواحدة والعدالة المنبثقة من قوة الكون المركزيّة التي هي اللـه، إلاّ الطيّبون الخيّرون المهيّئون فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لا بالأحياء وحدهم بل بأشياء الوجود الصامتة كذلك.
مقطع بخط يد الأستاذ جورج جرداق
إذا كان الأمر على هذه الصورة، فلا بدّ من أن يكون شربل بعيني من أصحاب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصّافي، وممن أودعهم اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء جميعاً، ومن الطيّبين الخيّرين المهيّئين فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لكي يتمكّن من أن يستشف جمال الروح السامي في عبقري المعاني الإنسانيّة علي بن أبي طالب، وأن ينتشي بعبق القيم التي يمثّلها الإمام الأعظم، ويستظلّه ويدفأ بوجوده، ويطمئن من خلاله إلى نعمة الحياة الواحدة في خلق اللـه.
هكذا هو، وهكذا كان كتابه الشعري مناجاة علي، الذي آثر أن ينظمه بلغته المحكيّة لتأتي أوثق صلة بحقيقته، وأدق تعبيراً عن مشاعره، وأقرب إلى العفويّة الخالصة.
في هذا الكتاب ما يدلّ على رغبة الإنسان الحقّ في العودة إلى الينابيع الصافية، التي لـم تعكّرها الهموم الآنية الهامشية، التي طالما أبعدت المرء عن أصوله، وحجبت عن عقله وقلبه ووجدانه غاية وجوده. والآنيّ قد يدوم ألوف السنين، ولكنه يظل آنيّاً بالنسبة لعمر الزمان السرمدي.
لبناني آخر ينضم إلى جملة اللبنانيين المثاليين، الذين كان طليعتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ويشير إلى إحدى المنائر الكبرى في ظلمات التاريخ، ويقول لك: هذا هو علي بن أبي طالب، فاستنر أنت أيضاً بنوره، وامشِ على ضوئه في طريق العدالة والمحبّة والرحمة والخير، أو اختصر وقل: في طريق الحياة الصافية الواحدة التي لا تتجزأ إلاّ هامشياً وآنيّاً.
تحيّتي إلى الشاعر شربل بعيني تصحب تحيّة لبنان إلى الخيّرين من أبنائه المهاجرين، وإلى كل من سعى منهم إلى حقيقة، وأبرز قيمة، وكرّم صاحب جهد كبير.. وشكراً لكم جميعاً.
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق