المرأة في قصيدة "كيف اينعت السنابل؟"/ ميشال حديّد

قبل البدء بتحليل شخصية المرأة في قصيدة "كيف اينعت السنابل؟" للشاعر المهجري شربل بعيني، لا بد من استخراج رسمها من بين آلاف الخيوط والوجوه والظلال والآهات لنتعرّف اليها من الخارج، ونميّزها عن غيرها من نساء الارض.
الصوت:
تبدأ القصيدة بصوت امرأة مجهولة. البداية صوت.. صوت شفّاف وحزين:
لا تَسَلْنِي يا حَبيبـي،
كَيفَ أَيْنَعَتِ السَّنابِلْ؟!
رَغْمَ رَحيلِ الشَّمسِ عَنْ أَرْضي،
وَأنَّاتِ البَلابِلْ..
رَغْمَ الْحَرائقِ والتَّشرُّدِ،
رَغْمَ صَيْحاتِ الأَرامِلْ..
الصوت هنا صوت مشهدي، حاله مأساوية رهيبة. حالة وطن بلا شمس، بلا مطر، بلا أمل. حالة وطن بقي منه أنات البلابل والحرائق والتشرّد وعويل الأرامل. وعلى الرغم من ذلك فقد أينعت السنابل.
كيف؟ لا تسلني يا حبيبي "يقول الصوت".
لماذا؟
الصوت يستمر في التعليل والتشريح بدون أسئلة. الصوت يعطي أجوبة على أسئلة لم تسأل انما معلّقة في البال، ومنطفئة في العيون:
فَبِلادي، يا حَبيبـي،
أسرَتْها زُمرَةٌ
لا فَرْقَ عِنْدَها بَيْنَ مَقْتُولٍ وَقَاتِلْ
سَرَقَتْها..
سَرَقَتْ خاتَمَ إِصْبَعِها وَصَبَّتْهُ سَلاسِلْ
وَدَعَتْ أَطْفالَها السُّمْرَ
إلى التَّحْقيقِ في كُلِّ الْوَسَائِلْ..
عَذَّبَتْهُمْ..
عَلَّقَتْهُمْ فَوْقَ أَعْوَادِ الْمَشَانِقِ
خَوْفُها..
أن تَسْتَحيلَ الأَيْدي أقْلاماً وَبارودَ قَنابِلْ..
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
هويتها: بطاقة سفر
الصوت يبدأ بسرد حكاية صبية اسمها "تمينة"، أوقفها مجهولون عند ابواب المدينة. ومن خلال التحقيق معها أقرّت انها مهجرة:
أُتْرُكوني..
اُتْرُكوني..
فَهُنَاكَ خَلْفَ أَسْوَارِ الضَّغِينَه
وَالْحِكاياتِ اللَّعِينَه
لِيَ بَيْتٌ.. فَدَعُوني
إنَّ مِنْ حَقِّيَ أَنْ أَسْكُنَ بَيْتِي!!
شوقها وحنينها
"تمينة" تتذكر، تشتاق، تتمزّق حنيناً الى بيتها، الى أشياء بيتها الصغيرة والكبيرة، الى الكرمة والحديقة وجرار النحل، الى صوت يقول الحقيقة ويزرعها في ألجيال الطالعة والآتية.
الجريمة الكبرى
"تمينة" لا تزال تشكو الى حبيبها مدى الظلم الذي لقيته على أيدي الاسياد بتهمة انها "أكلت ثدي الزعامة":
ضَرَبوني..
فَكَّكُوا كُلَّ العِظامْ
وَرَمَوْني، يا حَبيبـي، بَيْنَ أَحْضَانِ السَّقامْ
ثُمَّ قَالوا، وَالْكَلامُ عِنْدَنا مِنْ طِينَةِ الحُكَّامْ:
"إبْنَةٌ كَسْلَى.. جَريئَه
سَوَّدَتْ وَجْهَ اليَتامَى
قَدْ حَسِبْناها بَريئَه
فَوَهَبْناها السَّلامَه
هذه البنتُ الدَّنيئَه
أكَلَتْ ثَدْيَ الزَّعامَه.."
الحقيقة:
عذابات "تمينه" الماضية والحاضرة والآتية تشردها، منعها من العودة الى بيتها الحبيب، اغتصابها، تحطيم عنفوانها وكبريائها.. كل هذه الأمور:
خِطَّةٌ مَدْروسَةٌ هَنْدَسَها عَقْلٌ كَبيرْ
أَشْرَكَ فِيها الْيَهودَ وَشَرْقَنا الْعَرَبِيَّ كُلَّه
وَسَخَّرَ ، لِنَجاحِها ، التِّلْفَازَ وَالْجَرائِدَ
وَكُلَّ مِنْ يَكْتُبُ حَرْفاً في مَجَلَّه..
تساؤل العالم المتجاهل:
والسؤال الكبير الذي تواجه به "تمينه" العالم من خلال مخاطبتها حبيبها هو:
لكنَّني ما زِلْتُ لا أَدْرِي:
لِمَاذا شَوَّهوا الطِّفْلَ الصَّغيرْ؟
وَلِمَاذا شَرَّدُوني، يا حبيبـي،
دُونَ عَوْنٍ أو مُجيرْ؟
السؤال الكبير تأخّر كثيراً. لقد قدّمت الجواب على السؤال عندما قالت ان الزمرة الحاكمة تخاف الانسان الحر:
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
هل هو التناقض؟ أم تساؤل العارف المتجاهل؟ أم هو توطئة لأسئلة وأجوبة أخرى؟
الحوار الذاتي
يبدز أن "تمينه" بعيدة عن حبيبها، كما هي بعيدة عن أرضها، ويبدو أنها تكتب الى حبيبها رسالة شعرية هي كناية عن حوار عميق مع ذاتها. وهذا الحوار الذاتي لا يقوم بدون أسئلة وأجوبة ومناقشات مستفيضة:
"وَلِماذا أَيْبَسوا الأَزْهارَ وَالأَشْجارَ
ثُمَّ صادَروا ماءَ الغَديرْ؟
وَلِماذا قَتَلوا في ساحَةِ الأَرْقامِ
مَلْيُونَ شَهيدْ؟!
كُلُّ هذا كيْ يَصيرَ الْمَوْتُ دَوْلَه"
.."شَعْبُنا.. شَاؤوا لَهُ أن يَتَعَذَّبْ!!
.. لَيتَني أَدْري، وَلَوْ بِالحُلْم، مَنْ كانَ السَّبَبْ؟
لأَجْمَعَ اللَّعَناتِ والدُّموعَ والآهاتِ
في قَماقِمِ العَجَبْ..
وَأَشْتَري لِكُلِّ مَنْ قالَ أَنا بَرِيءٌ
خِنْجَراً مِنَ الغَضَبْ
وَسُيوفاً مِنْ لَهَبْ"
وبعدها تعود "تمينه" من جديد الى استذكار ايام الطفولة واسترجاع صورة امها المصلوبة وبلادها السليبة التي تناجيها قائلة:
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
ومن جديد ايضاً تستزيد "تمينه" في الحديث عن نفسها وعذاباتها واضطهاد الاحتلال لها:
غَمَرتْني هَبَّةُ الرِّيحِ وَذَرَّتْني رِمَالْ
في عُيُونِ الإِحْتِلالْ
أَفْزَعَتْهُمْ بِرِمالي
هَبَّةُ الرِّيحِ الَّتِي لا تَهْضِمُ ثِقْلَ اللَّيالي..
.. عَمَّمُوا إِسْمي وَلَوْني
وَعَناوينَ خِصَالي:
.. "هذِهِ الْبِنْتُ تَمينَه
"...."
صَفِّدوها،
كَبِّلوها بِالْحِبالْ
وَادْفُنوها في قُبورِ "الإعْتِقالْ"..
.. "يَتَّموها، شَرَّدوها ، يا حبيبـي،
وَرَمَوْها في الْحِكاياتِ اللَّعينَه
بَيْتُها اللَّيْلُ وَأَوْهامُ السَّكينَه
.. أَصْبَحَتْ، مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي.. مَدينَه.
وتطلب "تمينه" من حبيبها:
خُذْني إِلَيْكَ يا حبيبـي،
.. كَيْ أَكُونَ السَّيْفَ فِي وَجْهِ الْخَطَرْ
.. دَوَائِرُ التَّجَسُّسِ تَنْتَشِرُ كَما الْهَواءْ
في مَسَامِ الأَرْضِ،
في تَنَفُّسِ الْمِياهِ،
وَاحْتِراقِ الضَّوْءِ في الْفَضاءْ
.. قَسَماً..
بِأَحْرُفِ القُرآنِ وَالإنْجيلْ
لَنْ أَموتَ قَبْلَ أَنْ أَفْضَحَ مَلْيونَ عَميلْ
وَزَّعوا شَعْبِي غَنائِمْ..
قَسَماً بالأَرْزِ
وَالثَّلْجِ
وَأَوْراقِ النَّخيلْ
لَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ جُرْحي وَأُقَاوِمْ
حَتَّى، عَنْ أَرْضِ بِلادي،
يَرْحَلَ الْغازي الدَّخيلْ
المرأة في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" يمكن استحضار صورتها الظاهرة عبر الخطوط والألوان التالية:
صبية في عمر الورد، تقترب من حاجز احتلال يفصلها عن أرضها، فيغتصبها رجال الحاجز، ويحققون معها، ويعذبونها أيم عذاب.
الآن هي امرأة مقهورة، محطمة القلب والنفس، ممزقة الجسد والوجه. ترتد الى الوراء. تسترجع كل صور الموت والمآسي والظلم والقهر والقمع. تثور. تتوعد. تتفجر غضباً وحنقاً. تتضح صورة الواقع أمام عينيها اكثر فأكثر. تنزل الى ما وراء الحدث الظاهري ـ المشهدي لتكتشف حقيقة المؤامرة ومخططيها ـ وتتحول "تمينه" الى مقاتلة عنيفة لتمحو عن وجه أرضها ملامح العار وظلاله وأدواته.
المرأة في قصيدة "كيف اينعت السنابل؟" واعية، مثقفة، كثيرة الهموم، متجذرة في تراثها القومي، عنيدة المراس، صلبة الايمان بعدالة قضيتها، جريئة حتى اعلانها التحدي والتمرد، وحتى رفع البندقية المقاتلة بوجه المغتصب. تعرف لماذا تقاتل ولاجل من تقاتل، وتعرف حقيقة المؤامرة واسبابها، وتعرف لماذا يطاردها زعماء الداخل والاحتلال على السواء. وتعرف الطريقة المناسبة للتخلص من هؤلاء جميعاً. لا تفكر عشوائياً، ولا تضرب عشوائياً، انها تفكر بكل خطوة قبل الاقدام عليها. وفي الوقت نفسه لا تنفك تشحن الرجل نفسياً لينهض ويثور ويتمرد ويقاوم.
انها قوية الشخصية، حديدية الارادة، ثاقبة النظر، وانها مقدامة، مغامرة واثقة من نفسها، وبالتالي هي عاشقة تطلب حبيبها لا الى سريرها وانما الى ساحة النضال والمقاومة. وفي قسمها بالانجيل والقرآن والارز والثلج والنخيل يعطيها الشاعر نفحاً من فكره وموقفه، فنضالها فوق الطائفية، ومقاومتها تمتد الى ابعد من حدود وطن الارز والثلج. وهي في الوقت نفسه تنظر الى الصراع اليهودي ـ المشرقي على انه مؤامرة خارجية خططها عقل كبير لاغراق المنطقة كلها في آتون الحروب والمآسي. من هنا تبدو المرأة في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" صاحبة رسالة انسانية تحررية، وهي تحاول دائماً ايجاد نوع من التوازن بين العقل والعاطفة من خلال لجوئها الى التساؤل واجاباتها على تساؤلاتها الذاتية. وفي النهاية تختار "العنف" طريقاً الى التحرير والتحرر، لكنه العنف اللاعشوائي.
في النهاية، تحمل البندقية وتعلن نفسها مقاومة.
ديالا، العدد الثاني، 30 تموز 1987
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق