الحكمة في ديوان "فافي" لشربل بعيني/ د. علي بزّي


د. علي بزّي وفاطمة ناعوت
كُتب الكثير عن ديوان شربل بعيني الجديد "فافي"، ولكن أحداً لم ينتبه الى الحكم المنثورة في الديوان كأنجم في سماء صافية، فإذا أخذنا مثلاً عبارته: 
"صمت الرجل يركّع جبلاً"
وبدأنا بتحليلها، لوجدنا أن الرجل الصامت في الملمات هو أكثر الرجال تأثيراً في مجتمعه، كونه "يشغّل" العقل وليس اللسان. 
ألم يركّع صمت "أبي الهول" التاريخ؟ 
ألم تردد الأجيال هذا المثل الشعبي الشهير: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؟
إذن.. فالرجل الصامت هو الرجل الأقوى، وهو الأكثر ثباتاً في موقفه، وقد تنهار الجبال ولا تنهار كلمته، لأنه لم ينطقها بعد.
ناهيكم عن باقي التفسيرات التي قد تأخذ وقتاً طويلاً من التحليل، نحن بغنى عنها في مقال قصير كهذا.
فاطمة ناعوت، كما هو معروف، شاعرة مصرية كبيرة، تركت الكثير من المؤلفات، لذلك خاطبها شربل بعيني كشاعرة، قبل أن يخاطبها كامرأة، فقال في قصيدة "وطني": 
"الشعراء يتنفسّون برئة واحدة 
فإن تألّم أحدهم تألّم الجميع".
وبهذه الحكمة تمكن شربل من ان يتقرّب أكثر فأكثر من فاطمة "فافي"، إذ دمج رئته برئتها وراحا يتنفسان معاً برئة واحدة، فإن تألمت تألّم.. وهذه تضحية نادرة لا يقدم عليها سوى شاعر مجنون.
وفي نفس القصيدة يقول أيضاً:
"إنتبه..  كلمتك لا تموت."
أجل، علينا أن ننتبه كثيراً، خاصة عندما نكتب أو نتكلّم، فكل كلمة نكتبها أو ننطقها سنحاسب عليها، ومن يدري فقد يلعننا التاريخ بسببها.. وهنا الطامة الكبرى.
وأعتقد جازماً أن شربل بعيني قد نفّذ هذه الحكمة بحذافيرها، فما من ديوان نشره إلا وأحدث ضجة أدبية، ابتداءً من "مراهقة" 1968، مروراً بـ "مناجاة علي" 1991، و"قرف" 1993، وانتهاء بـ "فافي" 2013، 41 مجموعة شعرية ونثرية أهداها شربل للتاريخ، فكُرّم على كلمته عشرات المرّات، وكان لي نصيب كبير في الاعداد والمشاركة بتكريمه. راجعوا أفلام تكريمه المنشورة على اليوتوب.
وفي قصيدته "مقعد في غربتي" يصيح شربل بعيني بصوته الجهوري حكمة ولا أجمل يتساءل فيها: 
"كيف أرتقي سلالمَ العشق 
وأنا مُقعدٌ في غربتي؟"
ليصور، بمرارة ما بعدها مرارة، حالة كل مغترب منّا.. فالغربة في نظره شلل كامل يصيب المرء فيقعده عن كل شيء، حتى عن الحب.. فتصوّروا!
أما في قصيدته "سراب" فيرمي شربل درره على الورق، كما ترمي الشجرة ثمارها على الثرى ليلتقطها الجائعون، فيجمع الأضداد في ثلاث عبارات فلسفية سريعة:
"الوردةُ تعشق الشوك، 
الشمسُ تلازم الصحراء، 
والنجمة تسامرُ الظلام!"
وما علينا سوى أن نحللها كل على مزاجه.
ولكي لا ينتهي حبّه الأخوي لـ "فافي" كما انتهى حب جبران لمي زيادة، نسمعه يصيح والغصة تخنقه وتخنقنا في آن واحد:
"ما أصعبَ أن يعيش الشاعرُ
في عصر المستحيلات.
ما أصعب أن يتعذّب الشعراء."
وفي قصيدته "المجنونة" يفلسف شربل السلام بطريقته الخاصة فيقول:
"المواطن بلا سلام، كلاجىء بلا وطن".
فالسلام بنظره هو أساس كل شيء، والوطن الخالي من السلام، يتحوّل فيه المواطن الى لاجىء، رغم وجوده داخل الوطن. وهذا ما حدث ويحدث معنا جميعاً في  اوطاننا العربية التعيسة.
وها هو يثبت كلامه بفلسفة أخرى تتبع الأولى كظلّها:
"كرامة الوطن من كرامة المواطن"
ومن يعترض على هذا القول فليرفع إصبعه.
أخيراً.. أعجبني تشبيه شربل لانسياب أسلوب فاطمة ناعوت الأدبي بانسياب الحب في قلوب العشّاق، وهل أجمل من هذا الانسياب؟
ثم أعجبني وطن الكلمة في قصيدة "وطني" الذي سكناه معاً لتحوّله فاطمة الى وطن للجميع.
كلام كهذا لا يأتي من الفراغ.. انه يتوالد من تفاعل الشعراء مع بعضهم البعض، ولو لم يكن هناك تفاعل أدبي بين شربل بعيني وفاطمة ناعوت لما تنعّمنا بكل هذا الجمال الادبي الخلاق. 
تحيتي لهما
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق