رؤساؤهم.. ورؤساؤنا

 
كما نشر في العراقية
 بينما كنت أتابع كيف تمكن الشعب المصري البطل من خلع رئيسين في مدة زمنية قصيرة، دون أن يهاب الموت، همه الوحيد أن يعيش أبناؤه من بعده بحرية ورخاء وسلام.. تذكرت كيف خلع اثنا عشر عضواً في حزب العمّال الأسترالي رئيسة الوزراء جوليا غيلارد، وبايعوا مكانها زعيماً آخر اسمه كيفن راد، كانت قد خلعته هي من قبل لتجلس مكانه على كرسي الحكم.. ورغم كل هذا التغيير السياسي الهائل نجد أن الشعب الأسترالي لم يهتم للمسألة بتاتاً.. وكأن شيئاً لم يكن.

    وتذكرت أيضاُ كيف فاجأ رئيس ولاية نيو ساوث ويلز الأسبق السيد بوب كار أعضاء حزبه العمالي وسكان الولاية باستقالته، لا لشيء، إلا لأنه استمتع بالمناظر الخلابة، بعد يوم واحد قضاه هو وزوجته في أرجاء الطبيعة، بعيداً عن الحكم، وأحس، لأول مرة، أنه خسر الكثير من الأيام الطبيعية الجميلة طوال عشرين سنة قضاها في الحكم، وهذا ما لا يغفره لنفسه. ولست أدري كيف أقنعته جوليا غيلارد بالعودة الى الحقل السياسي كوزير لخارجية أستراليا بعد اعتكاف طويل. 
   يوم واحد جميل وهادىء كان كافياً لأشهر زعيم عمالي بتاريخ أستراليا، وأطولهم حكماً، كي يقدّم استقالته، حتى لا يحرم بعد الآن من النزهات في أرجاء الطبيعة، فاضي البال، مشرق الوجه، وبعيداً، كل البعد، عن الأضواء وهموم الحكم. حياته الخاصة تأتي أولاً، بعد أن أعطى بلاده أجمل وأنضر سني حياته، أفلا يحق له التنزه والترحال من مكان إلى آخر دون إزعاج، أو دون مطاردة الصحفيين له؟ بلى والله.
   هكذا يفكّر الرؤساء في الغرب، إذ أن رئاستهم وظيفة، متى ضجروا منها استقالوا، وفتّشوا عن عمل آخر. وكم ستكون دهشة القراء العرب قوية إذا أخبرتهم أن أحد الرؤساء الأستراليين (نيفيل راين) عاف الحكم من أجل تأسيس وكالة لتنظيف المكاتب، أي أنه أصبح زبالاً بعد أن كان رئيساً، دون أن يرف له جفن، أو أن تنقص قيمته الإجتماعية أو الحزبية، فالتجارة عند الغربيين أهم من الحكم، طالما أن الحكم لا يدوم، والتجارة باقية.
   أما في دولنا العربية التعيسة، فالرؤساء لا يستقيلون من مراكزهم، ولو عمّت التظاهرات البلاد، واحتجت جميع وسائل الإعلام وفندت أخطاءهم، وصاح 33 مليون مواطن بصوت واحد: إرحل.. كما حصل في مصر يوم الثلاثين من حزيران ـ يونيو 2013.. أو اغتيل مئة ألف مواطن كما يحصل، وللأسف، في سوريا والعراق. 
هم متمسكون بالحكم، شاء من شاء، وأبى من أبى، لا تهمهم النزهات كبوب كار، ولا جمال الطبيعة، حتى ولا تأسيس تجارة كذاك الرئيس السابق، والزبّال الحالي بشرف ما بعده شرف.
   منذ سنتين  ونصف، زغردت الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وأقيمت الحفلات الغنائية الراقصة، ودبجت مئات المقالات الأدبية والسياسية والقصائد العصماء، حين أعلن الرئيس المصري حسني مبارك استقالته حقناً لدماء أبناء أمته على حد تعبيره، ورضوخاً لارادة الجماهير. 
ومنذ أيام ألهبت الألعاب النارية سماء القاهرة احتفاء بسقوط رئيس استشهد من شعبه خلال حكمه القصير أكثر مما استشهد أيام مبارك، كما أن صرخة شعبه التي أطاحت به كانت أقوى من الصرخة التي أطاحت بسلفه بثلاثين مليون مرة. ومع ذلك يأبى محمد مرسي وحزبه "الحرية والعدالة" الرضوخ للأمر. هذا يهدد بإشعال البلاد، وذك يهدد بتفجير العباد، من أجل عينيّ الكرسي ليس إلاّ. 
رئيسة وزراء أستراليا خلعها اثنا عشر عضواً فقط، كما ذكرت سابقاً، ولم تنبث ببنت شفة، بل هنأت غريمها واعتكفت في منزلها، وأبت أن تمارس السياسة بعد هذه الهزيمة.  
هكذا تكون الديمقراطية الحقة، وهكذا يكون رؤساء الدول.. هم موظفون في الدولة وليسوا مالكين لها كزعماء العرب الأشرار الطامعين بالبقاء في الحكم، إلى ان يلفهم القبر، دون أن يفكّروا براحتهم، بصحتهم، بعائلاتهم، بكتابة مذكراتهم أو بالتنزه في أرجاء الطبيعة الخلابة دون حرس أو مرافقين، صحيح أن الحياة حلوة، ولكن الحكم بنظرهم أحلى، أما يقول المثل: لو آلت لغيرك لما وصلت اليك، فلماذا يسلمون الحكم لغيرهم على طبق من ذهب، طالما أن بإمكانهم الاحتفاظ به إلى أن ينهش الموت أجسادهم.
   عجيب أمر رؤسائنا في الوطن العربي، نتعب منهم ومن مناظرهم، ولا يتعبون منا، يريدون أن يحكمونا، ولو بالقوة، إلى أبد الآبدين، بينما الرؤساء في الغرب، فيتعبون من الحكم، قبل أن يتعب منهم، ويرتاحون من أعبائه قبل أن يريحهم شعبهم، أو الله تعالى.. هم يعرفون حدودهم فيتوقفون عندها، ولذلك يخلدهم التاريخ، أما رؤساؤنا فيخجل التاريخ من ذكر سيئاتهم.. وهل عند من يتمسك بالحكم حد الجنون من حسنات؟ بالطبع لا.
شربل بعيني
سيدني ـ أستراليا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق