كاد المعلم أن يكون.. ديكتاتوراً



شربل بعيني
شاءني الله أن أمارس مهنة التعليم لأكثر من ثلاثين سنة، وأن أشرف كل هذه المدة على تربية وتهذيب الطلاب في بلاد كل ما فيها قانوني، وعليك، قبل أن تتكلم مع الطالب أو تقاصصه، أن تحصي أنفاسك، وتنتقي مفرداتك كي لا يجرك الى المحكمة، ويقضي على مستقبلك المهني والاجتماعي.
ولهذا السبب يخضع المعلمون في أستراليا لدورات مكثفة حول كيفية التعاطي والتعامل والتكلم مع التلميذ، كي لا يجرحوا شعوره، أو يسببوا له بأذى نفسي، مخافة تعرّضهم للملاحقة القانونية.
وكم تألمت وأنا أقرأ خبرين تربويين، أحسست أنهما أقرب الى النكات منهما الى الحقيقة، الأول من الهند ومفاده أن معلماً أجبر تلميذه على السير عارياً أمام المدرسة لمدة ثلاث ساعات، بعد أن أوسعه ضرباًً، والسبب كما أوردته صحيفة (ذا تايمز أوف إنديا) ونقلته الى العربية (الشرق الاوسط): ان تلميذاً اسمه "راكيش" لم يرتدِ بنطال (بنطلون) المدرسة المناسب، فوبخه المعلم، وأوقفه خارج الصف في احدى المدارس الحكومية في العاصمة نيودلهي.
والظاهر أن طقس نيودلهي كان حاراً جداً في ذلك اليوم، والوقوف خارج الصف المكيّف بالهواء مضجر ومتعب للغايةً، لذلك قرر (راكيش) مع مجموعة من رفاقه السباحة في خزان المياه الخاص بالمدرسة، وفجأة لمحهم نائب المدير، فلاذوا بالفرار، ولم يقع في قبضته إلا (راكيش) المسكين العاري حتى من ورقة التوت ، كونه لم يجد ثيابه، فأوسعه ضرباً، وأجبره على السير عاريا أمام المدرسة لمدة ثلاث ساعات.
لا أدري إذا كان يحق للمعلم، في بلاد كالهند، أن يضرب تلميذه أم لا؟ إذ أن مسألة الضرب لم تحسم بعد في بلدان كثيرة، ولكن لا يحق لأي كان، لا في الهند ولا في السند، أن يوقف طفلاً عارياً لمدة ثلاث ساعات أمام أعين الآخرين. فهذه جريمة أخلاقية قبل أن تكون تربوية، يجب أن يتعرّض مقترفها لأشد العقوبات، لا لأنه عاقب تلميذه، بل لأنه زرع بذور الشر والكراهية في قلبه وقلوب كل من شاهد منظره العاري، وأوحى لهم أن مسيرة الحياة لا تستقيم إلا بالبطش والتعذيب.

وكم يكون المشهد رائعاً ومؤثراً لو خلع المعلم قميصه وستر عورة تلميذه، مهما كان مذنباً وشقياً، لأنه بذلك ينمّي فيه روح الفضيلة والأخلاق، ويشعره بحنانه الأبوي، وبأن الحياة لا تقوم على السلبيات فقط، بل على المحبة والتسامح.


والخبر الثاني من السعودية، حيث أجبر معلم أحد طلابه على تقبيل قدمه أمام زملائه الطلبة في إحدى المدارس الابتدائية في المنطقة الشرقية.
والقصة كما روتها (الشرق الاوسط) تعود إلى مدرسة "محمد الفاتح" الأهلية في الدمام، حيث قام أحد الطلبة المشاغبين في الصف الخامس الابتدائي بشتم معلمه، مما أثار غضب المعلم وقام بتوجيهه إلى مرشد المدرسة، الذي اتفق معه على اعتذار الطالب علنا أمام زملائه بتقبيل رأس معلمه وقدمه.

ما هذا المرشد الذي يرشد إلى تقبيل الأقدام؟!

تقبيل الرأس مقبول نوعاً ما، أما تقبيل القدم، فجريمة مخجلة لا يرتكبها إلا معلم عربي، لأنه لن يعاقب عليها، كونه يعيش في مجتمع لا يفكّر إلا بالقدمين، والفخذين، والساقين.. وما فوقهما، وما تحتهما، وما يحيط بهما.

من هنا أجد أن التعليق على الخبر لا يجدي، طالما أننا نعيش في شرنقة جاهلية معتمة نسجنا خيوطها بغبائنا، وسجنّا أنفسنا بداخلها، ورفضنا أن نعايش عصرنا، مهما سطعت شمسه، ومهما قدم لنا من خدمات حياتية، قد نموت بدونها، ومع ذلك نفضّل أن نموت.

صدق من قال: الشعب العربي شعب ميت.. وإن كان يتنفّس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق