معزوفة حب شربل بعيني

قد يكون نعيم خوري انتقل عنا باللحم والدم، إلا أنه باقٍ بيننا ما بقيت نسمة، وأطلت حياة. إنه خالد ككلماته، كأشعاره، كمحبته، وكاندفاعه لتشجيع كل ما هو جميل. بمناسبة ذكرى رحيله الخامسة، قطفت من بين أنامله الذهبية هذا المقال
****
صدى لبنان ـ العدد 672 ـ 14 تشرين الثاني 1989
إلى صديقي نعيم، أهدي (معزوفة حبّي) التي ضجر من سماعها صباح كلّ يوم سبت
هكذا أطلّ عليّ الصديق شربل بعيني هذا الأسبوع بمولوده الجديد، وهو كناية عن مجموعة شعريّة أنيقة الطباعة والإخراج. وعلى الرغم من أنه طالعني بتهمة التعب، باطلاً، فقد خلوت إلى نفسي، وعكفت على قراءتها، يقيناً منّي أن قراءة الشعر واستشراف أبعاده، قد تختلف، نسبياً، عن سماعه واستيعاب أصدائه
وإذا في يدي لهيب مخملي
تقطفه العين من ملامح عالـم ممزّق الإطار،
طلعت منه أعمدة تعانق السماء،
تعمّدت هي والشعر بميرون الحبّ،
فكانت الخلاصة شربل في معزوفته
في هذه المعزوفة تخلع حقيقة شربل كلّ الأقنعة، وكلّ الوجوه المستعارة، ليبدو وجهه الأصيل ببساطة كليّة، وعفويّة
صادقة، تعبّر عن خلفيّة أخلاقيّة متميزة بالصفاء، ترفض الهرب من الإضاعة الدائمة للذات، وتواجه التوتر الحاد للزمن الذي يرتهن الإنسان، فتحول الذات إلى بركان، وتحرّر الرهينة من الأغلال
وهكذا بدا لي شربل وجهاً يطوف خارج الأرصفة ضد الريح، على أجنحة للشعر لا تزال قادرة على التحليق وقلباً يشرق خارج الزمان، في خفقاته التماع الألم الزاخر بالإيمان، يدحرج الليل عن الأرض، ويتجاوز الموت ليكون له حضور الأسطورة
وفكراً يغني خارج التجربة، بأحلى ما تكون أغاني القلق والضوء والحريق الساكن في النفس سؤالاً أبديّاً، في محاولة لخلق عالـم إنساني جديد
ولوناً يتحرّك خارج المكان، يرشق الكون بالأمل واليقين والمحبّة، ليصبح فيه شيئاً مستمراً دائم الحياة والانسجام والخلق
وأنيناً يتصاعد من الأرض ومن الروح، يتطلّع إلى التحوّل، وفي ارتفاف الرؤيا، يعانق الدنيا فيختصر الأبعاد إذا أزال القافية نبض في الكلمة شعاع جديد حي، وإذا أطفأ التفعيلة توهّج في الشعر نغم يعكس الإحساس في خفقة موسيقيّة لا تنفصل عن الفكرة، ولا تعرف الابتذال. فإذا الصوت انسجام لوحدة وفنيّة القصيدة، وإذا الصدى إيقاع يغني المشكلة الفكريّة بالتجارب الشعريّة
الشعر عندي..
وْيِسْمحوا النقّادْ
أهداف تتفاعلْ بلا تفعيلْ..
.وشفاف تكتب ع الهوا مواعيد
وأحباب تحت جوانحو تلتمّ
وما اصطلحوا على تسميته موسيقى داخلية تبعث على الإنسجام مع الإيقاع الخارجي، أسمّيه أنا في (معزوفة حب) وهجاً في أرض القصيدة، يسابقك في الصورة إلى ملامسة الكلمة، ويشدّك في المعنى إلى عمق التجربة
كنتي اللّقا لمّا الشّراع يميلْ
صرتي السّفر وبحورِك الغربِه
وصارت شْفافِك تنزف مْواويلْ
وتتجمّع مواويلها بقلبي
كثيراً ما سمعت شربل يقلق ويغتاظ من تصرّفات الحبيبة، فينقم عليها، إلاّ أن نقمته لا تدوم، ويدعوها هو نفسه إلى السير في هواياتها
قومي ارقصي وتدلّعي عليهُنْ
برقصاتِك الحلوين
ْلْيالي الفرح ربيِت عَ إيديهُنْ
وإيديهُنْ بْساتينو
غبرة رقص علقِت بِإجريهُنْ
ومعتّقَه من سنينْ
ثـم لا يلبث أن يحار من تلاعبها، ومن هجرها، فيصرخ
كيف فيكي عايشِه بدوني
وضحكتِك لبعيد مسموعَه
نسيتي السّهر ع مرفأ عْيوني
مطرَح ما كان صْباحنا يُوعَى
إلاّ أنه يأبى أن يفتضح أمره
والمطعم الـ ما راح من بالي
ع كتر ما رندح أسامينا
ما عدت زورو.. خفت يحلالي
قلّو الحقيقَه وبغّضُو فينا
وفاء شربل، طيبة قلبه، صفاؤه وإخلاصه في حبّه، اللهب الإنساني الذي تتموّن منه نفسيته، يتفجّر
يا عمري..
عمري من دونِكْ
ضايع فوق دْروب دْروبْ
مصلوبْ.. وصرخات عْيونِك
ما بْتَعرف إنّي مصلُوبْ..
وْشو همّني
بِقْشُر جلد جسمي
وبغزلو شرشف ع لون العتم
وبشلحو عليكي..
تْركيني بشعرِك إتدرّى
إتحبّى من ريح ظنوني
إتكي عَ كتفِكْ
إتقلّدهاك النجمات الغنّوجِه
المتكيّه عَ كْتاف جْبالي
بعد هذه الرحلة الطويلة، رغم القلق والاضطراب، رغم الأشواك والجراح، رغم العتمات التي تراكضت في طريقه، يختصر شربل بعيني شخصيّته في قمّة إنسانيّة آمن بها
نحنا بْداية هـ الدني
ونحنا النّهايِه
وكأنه يقول: ما قيمة الدنيا بدون الإنسان، وما قيمة الإنسان بدون الحبّ. وإذا لـم يكن بدّ في كل عمل متكامل، من سقطة فكرية، فقد استوقفتني طويلاً هذه السقطة في قصيدة: بدّي بوسِك.. في هذه القصيدة يزوّر الشاعر نفسه، يتنكّر لقيمه الإنسانيّة ومسلكيّته، إنها قصيدة مراهقة، لا تعرف الحبّ، وتستعبدها حيوانيّة فحولة الشهوة، فلا تجد لها مخرجاً إلاّ في الغرائزيّة التي تلتذّ بترك بصماتها على مظاهر الكون. أنا أعتبرها نتيجة صدمة عاطفيّة، بل أرى فيها (موضة من الموض) التي تتحلى بها صرعات العصر وهذه التقليعة التي تنتف ريش الطهارة، وتمزّق بمخالبها ضياء العصافير، كنت أتمنى لشربل أن يتبرّأ منها ويئدها قبل أن تولد، ليبقى صوته صوت السيف الذي يبقى
بهالدني مسموع
ولا تبقى حبيبته
يا الـ إنتي حكاية أوطاني
وسفر الأوجاع الـ خلّتني
إكره حالي
فتطلّ علينا، كلما اشتقنا إلى الضوء والدفء والجمال، (معزوفة حب) لا يغني فيها شربل وحده، بل يغنّي معه قلب الإنسان، وقلب العالـم، وقلب اللـه
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق